مقالات

أزمة الديون الخارجية: بين أداة التنمية وعبء الاختناق الاقتصادي

في أحدث تقاريره حول السياسة المالية، حذّر صندوق النقد الدولي من أن الدين العام العالمي سيستمر في الارتفاع، ليتجاوز مستوى 100 تريليون دولار بنهاية العام الحالي، مما يمثل 93% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وأشار الصندوق إلى أن الوضع المالي لبعض الدول قد يكون “أسوأ مما هو متوقع”، حيث لم تسجل الديون العامة زيادة في النسبة المئوية مقارنة بالعام الماضي، إلا أن قيمتها تواصل الارتفاع، مع توقعات بوصول النسبة إلى 100% بحلول عام 2030، بزيادة 10% عن عام 2019 قبل تفشي وباء كورونا. في دول مثل إيطاليا، تشكل خدمة الديون ما يقارب 20% من إجمالي الميزانية، بينما في مصر، تبلغ مدفوعات الفائدة نحو 60% من الإيرادات العامة، مما يعوق قدرة هذه الدول على تخصيص مواردها للقطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة. كما أن الولايات المتحدة تشهد تجاوز الدين العام 130% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يثير مخاوف متزايدة بشأن استدامة هذا الدين على المدى الطويل.

يطرح السؤال: هل يعتبر الدين العام أداة للتنمية الاقتصادية، أم أنه عبء ثقيل يعرقل التقدم؟ بينما قد توفر القروض تمويلًا للمشروعات التنموية في بعض الحالات، إلا أن الفوائد المرتفعة والديون المتزايدة قد تؤدي إلى عواقب سلبية على المدى البعيد، حيث يعاني العديد من الدول من صعوبة في الحفاظ على استقرارها المالي دون الوقوع في فخ الديون.

الدين العام: أداة تنمية أم عبء ثقيل؟

يمكن أن يكون الدين العام أمرًا حيويًا للتنمية ودافعًا للنمو الاقتصادي، حيث تستخدمه الحكومات لتمويل نفقاتها، حماية شعوبها، الاستثمار فيها، وتمهيد الطريق لمستقبل أفضل.
ومع ذلك، يمكن أن يتحول الدين العام إلى عبء ثقيل عندما ينمو كثيرًا أو بسرعة كبيرة. وهذا ما يحدث اليوم في جميع أنحاء العالم النامي، إذ وصل الدين العام إلى مستويات هائلة، وبلغت أزمة الديون الخارجية منعطفًا خطيرًا في الآونة الراهنة، خاصة بعد أن تطورت أحجامها وأعباؤها إلى مستويات غير مسبوقة.

التناقض بين خدمة الدين والحفاظ على معيشة الشعوب

أهم معالم هذا المنعطف هو التناقض بين قدرة الدول المدينة على دفع أعباء ديونها الخارجية وبين المحافظة على الحد الأدنى الضروري لمستوى معيشة البشر فيها.
فقد أصبحت أعباء خدمة الديون (الفوائد والأقساط) تستنزف نسبة هامة من إجمالي حصيلة صادراتها ومن إجمالي ناتجها المحلي.
وقد حاولت بعض الدول المدينة مواجهة هذا المأزق من خلال استنزاف احتياطياتها النقدية (الذهب والعملات الأجنبية) والضغط على مستوى الواردات. لكن استنزاف هذه الاحتياطيات أدى إلى تدهور القيمة الخارجية لعملاتها الوطنية.

ولما كانت هناك علاقة ارتباط قوية بين مستوى الاستهلاك الجاري والإنتاج المحلي والاستثماري والنمو الاقتصادي من ناحية، ومستوى الواردات من ناحية أخرى، فإن استمرار الضغط على الواردات بعد حد معين ينعكس في شكل قوى انكماشية تخفض من مستوى المعيشة وتوقف عجلة النمو الاقتصادي.

انعكاسات الديون على الاقتصاد والمجتمع

من الطبيعي أن نشهد في العديد من البلدان المثقلة بالديون تدهورًا في مستويات الاستهلاك الأساسية، وارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار، وزيادة حادة في معدلات البطالة. إذا لم يتم السيطرة على هذه الظروف، فقد تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي، مما يزيد من احتمالات حدوث اضطرابات أو حتى انفجارات اجتماعية في المستقبل.

الديون: قضية سياسية عالمية

أصبحت أزمة الديون الخارجية كارثة حقيقية على شعوب البلدان المدينة في العالم الثالث، وباتت أحد محاور الصراع والخلاف بين البلدان المدينة والبلدان الدائنة. ولهذا خرجت من إطارها التقني والمالي والنقدي لتتحول إلى مشكلة سياسية عالمية من الدرجة الأولى.

وقد دعت الأمم المتحدة مؤخرًا إلى ضرورة التدخل لعلاج هذه الأزمة الكبيرة من خلال تقريرها الأخير الذي أشار إلى ارتفاع احتياجات التمويل مع جهود البلدان لدرء تأثير الأزمات المتتالية على التنمية. وتشمل هذه الأزمات جائحة COVID-19، وأزمة تكلفة المعيشة، وتغير المناخ.

مقترحات الأمم المتحدة لمعالجة الأزمة

إن الهيكل المالي الدولي غير المتكافئ يجعل وصول البلدان النامية إلى التمويل غير كافٍ ومكلف. ولدى الأمم المتحدة خارطة طريق حول إصلاح الهيكل المالي الدولي وتحفيز أهداف التنمية المستدامة، تركّز على ثلاثة مجالات للعمل لمعالجة عبء الديون العالمية:
• معالجة التكلفة العالية للديون والمخاطر المتزايدة لضائقة الديون.
• التوسع الهائل في التمويل طويل الأجل الميسور للتنمية.
• توسيع نطاق تمويل الطوارئ ليشمل البلدان المحتاجة.

تحول الدين إلى عبء حقيقي على الدول النامية

وأمام هذه الدعوات، التي لم ترتقِ للتطبيق على أرض الواقع، تحول الدين إلى عبء كبير على البلدان النامية بسبب محدودية الوصول إلى التمويل، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وانخفاض قيمة العملات، وتباطؤ النمو.
هذه العوامل تقوض قدرة هذه البلدان على الاستجابة لحالات الطوارئ، معالجة تغير المناخ، والاستثمار في شعوبها.

تواجه البلدان الخيار المستحيل بين خدمة ديونها أو خدمة شعوبها. اليوم، يعيش 3.3 مليار شخص في بلدان تنفق على مدفوعات الفائدة أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة. عالم مليء بالديون يعطل ازدهار الشعوب وكوكب الأرض ومستقبلها.

صندوق النقد الدولي ودوره في تفاقم الأزمة

صندوق النقد الدولي (IMF) لعب دورًا حيويًا في دعم الدول النامية خلال الأزمات الاقتصادية، حيث قدم مساعدات مالية ساعدت بعض البلدان على التغلب على انهيار العملات والعجز في الموازنات، مثل كوريا الجنوبية والبرازيل، اللتين استفادتا من القروض التي ساهمت في تحقيق استقرار اقتصادي ونمو مستدام. على الرغم من هذه النجاحات، فإن صندوق النقد الدولي تعرض لانتقادات بسبب تأثيرات سلبية في بعض الحالات. في الأرجنتين، على سبيل المثال، فشلت الإصلاحات الهيكلية في تجنب الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد بعد تلقي القروض من الصندوق، مما أسفر عن زيادة الديون وتفاقم الأوضاع الاقتصادية. كما أن مصر، رغم استفادتها من قرض صندوق النقد في 2016، واجهت تحديات بسبب السياسات التقشفية التي أدت إلى معاناة الفئات الفقيرة وعمقت الفجوة الاجتماعية.

وهناك دعوات لعدم الحاجه لسياسات تقشفية صارمة أو اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بشروطه المجحفة وتدخلاته في الشؤون الداخلية. فقد ساهم الصندوق في تفاقم أزمة المديونية خلال جائحة كوفيد-19 عندما دعم الدول بمزيد من الديون. ففي أغسطس 2021، خصص الصندوق حقوق سحب خاصة (SDRs) بقيمة 650 مليار دولار أمريكي لأعضائه، بهدف مساعدة الاقتصادات على تجاوز الأزمة.

لكن هذه الصورة تبدلت بشكل كبير، إذ نمت الديون بمعدلات فلكية تفوق معدلات نمو الناتج المحلي، وارتفعت أعباء خدماتها بمعدلات تفوق نمو الصادرات.

الخلاصة: أزمة الديون واقع حتمي

أزمة الديون الخارجية ليست تحديًا ماليًا فحسب، بل هي تهديدٌ للتنمية والاستقرار الاجتماعي والسياسي في العالم النامي. ومع ذلك، فإن مواجهة هذه الأزمة تتطلب إرادة دولية جادة لإعادة صياغة الهيكل المالي العالمي، بما يضمن تمويلًا عادلًا ومستدامًا يُمكّن الدول النامية من تحقيق التنمية دون الوقوع في شرك الديون.

إن العمل على تنفيذ إصلاحات جذرية مثل إعادة هيكلة الديون، وتعزيز التعاون الإقليمي، والاعتماد على أدوات مالية مبتكرة، يُمكن أن يُحول أزمة الديون من عبءٍ اقتصادي إلى فرصةٍ للنمو والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى