مقالات

مخاوف جديدة لمحافظي البنوك المركزية وشكوك حول فعالية السياسة النقدية وسعر الفائدة

ما زالت البنوك المركزية في حالة تردد وقلق بين خفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد أو رفعها لمكافحة التضخم. لكن الحقيقة تشير إلى أن رفع سعر الفائدة يترتب عليه آثار سلبية متعددة. أولاً، يزيد من تكلفة الاقتراض للأفراد والشركات، مما يؤدي إلى تقليص الإنفاق والاستثمار. ثانيًا، يؤثر على تكلفة القروض العقارية وقدرة الأفراد على شراء المنازل. ثالثًا، يقلل من جاذبية الاستثمار في الأسهم مقارنة بالسندات، مما يضر بأسواق الأسهم. رابعًا، يزيد من جاذبية العملة المحلية، مما يؤثر على التجارة الدولية. خامسًا، يعني أن تكلفة خدمة الديون سترتفع بالنسبة للشركات والدول المدينة. هذه الآثار تجعل رفع الفائدة قرارًا بالغ الأهمية ويجب النظر فيه بعناية.

تجدر الإشارة إلى أن البنك الفيدرالي الأمريكي خفّض، في وقت لاحق من جائحة كورونا، أسعار الفائدة بشكل حاد لتحفيز الاقتصاد، ثم قام برفعها تدريجيًا لمواجهة التضخم المرتفع في الفترة الأخيرة، قبل أن يعود للتخفيض مجددًا مع تباطؤ التضخم وتغير الظروف الاقتصادية.

السياسات النقدية أثناء الأزمات: دروس من الماضي

على الرغم من انتهاج العديد من الدول سياسات نقدية تيسيرية ظهرت بوضوح خلال أزمة كورونا، حين أُغرقت الأسواق بالنقود أثناء فترات الإغلاق، فقد قُدّمت السيولة، وأُجّل سداد القروض للأفراد والمؤسسات، كما منحت الحكومات أموالًا بلا مقابل. هذه الإجراءات، رغم أهميتها في حينها، خلّفت جبلًا من الديون وارتفاعًا كبيرًا في مؤشرات التضخم.

عند مقارنة تجربة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، نجد أن سياسات مشابهة اتبعتها دول أخرى كالبنك المركزي الأوروبي والبنك الياباني، حيث عمدت هذه المؤسسات إلى ضخ سيولة هائلة عبر برامج التيسير الكمي. في حين أن هذه البرامج أسهمت في استقرار الأسواق المالية مؤقتًا، إلا أنها خلفت أعباء ديون طويلة الأجل، كما ساهمت في تضخم أسعار الأصول مثل العقارات والأسهم.

دور أدوات السياسة النقدية التقليدية

يهدف نظام الاحتياطي الفيدرالي إلى تحقيق استقرار اقتصادي يجمع بين تضخم منخفض، بطالة متدنية، ونمو اقتصادي مستدام. ويعتمد لتحقيق ذلك على أدوات السياسة النقدية الرئيسية مثل:

  • عمليات السوق المفتوحة: بيع وشراء الأوراق المالية الحكومية للتأثير على السيولة النقدية.
  • تحديد سعر الخصم: سعر الفائدة على القروض بين البنوك والمؤسسات المالية.
  • متطلبات الاحتياطي القانوني: نسبة الاحتياطي التي يجب أن تحتفظ بها البنوك لدى البنك المركزي.

لكن هذه الأدوات تواجه الآن تحديات كبيرة في ظل تغير الديناميكيات الاقتصادية العالمية، حيث تصبح الاستجابة للأزمات أكثر تعقيدًا وتستدعي حلولًا غير تقليدية.

التحديات أمام البنوك المركزية في عصر التقلبات

فخ السيولة

خلال العقد الماضي، وقعت البنوك المركزية في فخ السيولة عند مستوى فائدة يقترب من الصفر، مما قيد قدرتها على إجراء مزيد من التخفيض في سعر الفائدة. لمواجهة هذا التحدي، لجأت إلى ضخ سيولة غير مسبوقة في الاقتصاد العالمي.

في المقابل، واجهت الاقتصادات الناشئة تحديات مختلفة. فعلى سبيل المثال، عند رفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة، سحبت رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة إلى الولايات المتحدة بحثًا عن عوائد أفضل، مما أثر سلبًا على استقرار العملات المحلية والاستثمارات في هذه الأسواق.

آثار السياسة النقدية على القطاعات الاقتصادية

مع رفع أسعار الفائدة، زادت تكلفة الاقتراض بشكل كبير، مما أثر على الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص.

  • قطاع الإسكان: تراجعت مبيعات العقارات بسبب ارتفاع تكلفة القروض العقارية، مما أدى إلى تباطؤ ملحوظ في هذا القطاع الحيوي.
  • الأسواق الناشئة: انسحاب الاستثمارات لصالح الأصول الأمريكية أدى إلى تدهور اقتصادي في بعض الدول النامية.

البحث عن أدوات جديدة للسياسة النقدية

مع استمرار تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي، تبرز الحاجة إلى أدوات نقدية مبتكر، وقد أدت سياسات البنوك المركزية الكبرى في الاقتصادات المتقدمة إلى عواقب سلبية، وبالتالي تحتاج إلى إصلاح، حيث يشكك العديد من الاقتصاديين وخبراء صندوق النقد الدولي في موثوقية أداة سعر الفائدة كأداة من أدوات السياسة النقدية، والتي أصبحت غير فعالة وغير كافية للتحكم في كمية النقود والطلب عليها وآلية إصدارها من قبل البنوك المركزية، والتي أفرط عدد منها في طبع كميات كبيرة دون غطاء، مما انعكس في شكل معدلات تضخمية جامحة.

وبالتالي فالمطلوب استحداث أدوات جديدة مثل ضرورة إعلاء شأن المشاركة واستخدام مؤشرات الربح كبديل عن سعر الفائدة.

في ظل التحديات التي تواجه السياسة النقدية التقليدية، تبرز أهمية تبني مفهوم المشاركة واستخدام مؤشرات الربح كأداة بديلة عن سعر الفائدة من قبل البنوك المركزية. تعكس مؤشرات الربح النشاط الاقتصادي الحقيقي وتقدم رؤية دقيقة حول أداء الاقتصاد بناءً على إنتاج الشركات ونشاطها الفعلي. وعلى الرغم من أن النظريات الاقتصادية التقليدية قد أغفلت هذا الجانب، إلا أن استخدام مؤشرات الربح يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق النمو الاقتصادي ومعالجة الركود.

البنوك المركزية التي تعتمد على مؤشرات الربح بدلاً من الفائدة ستساهم في تحفيز القطاعات الإنتاجية وتعزيز الاستثمارات التي تعتمد على عوائد حقيقية، مما يخلق دورة اقتصادية أكثر استدامة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه الآلية أن تخفف من حدة التضخم، حيث أن الربح يرتبط مباشرة بالإنتاج الفعلي وليس بتكاليف الاقتراض.

إن تعزيز نظام يقوم على المشاركة والربح يمكن أن يشجع على إقامة شراكات حقيقية بين البنوك والشركات، مما يؤدي إلى توزيع المخاطر بشكل عادل ودفع عجلة النمو. كما أن هذا النظام يعكس القيم الاقتصادية الحقيقية ويعيد التوازن بين القطاع المالي والاقتصادي، بما يدعم الاستقرار والتنمية الاقتصادية على المدى الطويل.

التجارب المصرفية للبنوك المركزية ومؤشرات الربح

على الرغم من أن العديد من البنوك المركزية تعتمد على أدوات السياسة النقدية التقليدية مثل سعر الفائدة لضبط السيولة الاقتصادية، فإن هناك تجارب ملحوظة حول العالم تسعى إلى استحداث مؤشرات أكثر ابتكارًا ومرونة للتفاعل مع التغيرات الاقتصادية. من أبرز هذه التجارب كان المشروع الذي تم تحت إشراف البنك الإسلامي للتنمية، حيث تم تشكيل فريق عمل، وكان لي شرف كوني أحد أعضائه، لدراسة إمكانية استحداث مؤشر للربح بين البنوك الإسلامية يعتمد على القطاعات الحقيقية التي تتعامل بها هذه البنوك

استحداث مؤشر للربح في البنوك الإسلامية

في إطار هذا المشروع، تم التركيز على ضرورة تطوير مؤشر يعكس الربحية المتوقعة والفعلية استنادًا إلى الأنشطة الاقتصادية الحقيقية للبنوك الإسلامية. يمكن أن يُستخدم هذا المؤشر ليس فقط في التفاعل بين البنوك الإسلامية بعضها البعض، بل أيضًا كأداة لاحتساب التكلفة والعوائد في السوق النقدي بين البنوك المركزية والبنوك التجارية.

استخدام المؤشرات في التوريق والأدوات المتبادلة

من جانب آخر، يُعتبر هذا المؤشر أداة قابلة للاستخدام في عمليات التوريق والصكوك (sukuk) والأدوات المتبادلة بين البنوك الإسلامية والبنوك المركزية. فبفضل الربحية المتوقعة والفعلية المُقاسة عبر هذا المؤشر، يمكن للبنوك المركزية استخدام هذه المؤشرات في ضبط وتنظيم السيولة المالية، خاصة في الأسواق التي تعتمد على الأدوات المالية الإسلامية. كما يمكن أيضًا أن يُستخدم هذا المؤشر لقياس مستوى التوازن بين الاستثمار والتمويل في القطاعات الحقيقية، مما يساهم في تعزيز الاستقرار المالي ويعزز الشفافية بين مختلف الأطراف المعنية.

أهمية تطبيق مؤشرات الربح في تحسين السياسة النقدية

تعكس هذه التجارب أهمية استخدام مؤشرات الربح القائمة على القطاعات الحقيقية في تعزيز آليات السياسة النقدية، سواء على مستوى البنوك التجارية أو البنوك المركزية. فعندما يتم قياس الربحية بشكل دقيق استنادًا إلى أداء القطاعات الفعلية وليس فقط على تكلفة الاقتراض، يمكن أن يساهم ذلك في تحسين قرارات الاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي. إن استحداث مثل هذه المؤشرات يفتح الباب أمام أنظمة مالية أكثر استدامة تعكس الواقع الاقتصادي الفعلي، مما يساعد في معالجة تحديات التضخم والركود من خلال استراتيجيات مبتكرة

التكنولوجيا المالية (FinTech): يمكن استخدامها لتعزيز كفاءة النظام المالي، خاصة في تقديم خدمات التمويل الصغيرة والمتوسطة.

  • العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs): توفر هذه العملات وسيلة لتحسين الشفافية والسيطرة على التضخم من خلال تتبع حركة الأموال بشكل دقيق.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية لتحقيق استقرار اقتصادي مستدام.

توصيات إصلاحية

  • تنويع الأدوات: يجب أن تتجاوز البنوك المركزية الاعتماد المفرط على سعر الفائدة، وتبني سياسات أكثر شمولًا مثل السياسات المالية التوسعية أو دعم الاستثمار المباشر.
  • تطبيق مؤشرات الربح: حلول مبتكرة لمواجهة التحديات

يعتبر تطبيق مؤشرات الربح بديلاً عمليًا وواقعيًا لسعر الفائدة، إذ يُسهم في تعزيز العلاقة بين القطاع المالي والاقتصادي. بدلاً من تركيز السياسة النقدية على تكلفة الاقتراض فقط، يمكن لمؤشرات الربح أن تدعم اتخاذ قرارات أكثر شمولية، تأخذ في الاعتبار قدرة الشركات على الإنتاج والنمو.

على سبيل المثال، يمكن للبنوك المركزية أن تعمل على تطوير مؤشرات لربحية القطاعات الاقتصادية المختلفة، مثل الصناعة والخدمات والزراعة، لتقييم الأداء الاقتصادي العام واتخاذ القرارات النقدية بناءً على بيانات أكثر شمولية. يمكن أن يؤدي هذا النهج إلى توجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية ذات العوائد المرتفعة، مما يعزز من تنافسية الاقتصاد ويساعد في الحد من الاعتماد على الأدوات التقليدية التي قد تكون أقل كفاءة.

تعزيز الشراكة بين البنوك والشركات

إن الاعتماد على نموذج يقوم على المشاركة والربح يعزز الشراكات بين البنوك والشركات، مما يوفر تمويلًا قائمًا على أسس تشاركية بدلاً من الديون. هذه الشراكات يمكن أن تساهم في تخفيف الأعباء المالية على الشركات الناشئة، مما يدعم الابتكار ويعزز الاستدامة الاقتصادية.

كما أن هذه الشراكات توفر توزيعًا أكثر عدالة للمخاطر والمكافآت، حيث تشارك البنوك في العوائد الناتجة عن المشاريع بدلاً من الاعتماد فقط على الفوائد الثابتة. هذا النهج يجعل البنوك أكثر تحفيزًا لدعم المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية العالية.

تعزيز الشفافية: إصدار تقارير دورية عن آثار السياسات النقدية على القطاعات المختلفة يساعد في بناء الثقة وتجنب القرارات غير المدروسة.

  • تعزيز التعاون الدولي: نظرًا للطبيعة العالمية للتحديات الاقتصادية، فإن تنسيق السياسات بين الدول الكبرى يمكن أن يخفف من آثار الأزمات.

الخاتمة

في ختام هذا المقال، من الواضح أن البنوك المركزية حول العالم تواجه تحديات غير مسبوقة في إدارة السياسات النقدية في ظل التقلبات الاقتصادية المتسارعة. بينما تظل أدوات السياسة النقدية التقليدية مثل تعديل أسعار الفائدة ذات أهمية كبيرة، فإن الواقع الاقتصادي الجديد يتطلب من البنوك المركزية التفكير في حلول أكثر ابتكارًا ومرونة. يمكن أن تكون مؤشرات الربح القائمة على الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، خاصة في سياق البنوك الإسلامية، أداة فعالة لمواجهة التحديات الاقتصادية المترتبة على تقلبات أسعار الفائدة والأزمات المالية.

إن تبني هذه المؤشرات يعزز الشفافية ويخلق آليات أكثر استدامة لقياس الربحية والنمو الاقتصادي، مما يساعد في تحقيق استقرار طويل الأجل في الأسواق المالية. إضافة إلى ذلك، فإن استخدام هذه الأدوات يمكن أن يسهم في تحفيز القطاعات الإنتاجية، ويعزز من التعاون بين البنوك المركزية والبنوك التجارية لتوفير بيئة اقتصادية أكثر توازنًا.

في ظل هذا التحول الكبير، سيكون من الضروري أن تواصل البنوك المركزية البحث عن حلول جديدة ومتطورة تواكب تغيرات الاقتصاد العالمي وتحقيق استقرارًا اقتصاديًا شاملًا. وفي هذا السياق، ستظل الحاجة إلى التعاون الدولي وتبادل الخبرات بين البنوك المركزية لتبني سياسات أكثر فعالية، تعمل على تيسير النمو المستدام وتفادي الأزمات المستقبلية.

إن تبني المؤشرات البديلة مثل مؤشرات الربح يمكن أن يمهد الطريق للانتقال إلى نظام مالي أكثر توافقًا مع المبادئ الاقتصادية الحقيقية ويعزز الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، مما يسهم في تحسين الأداء الاقتصادي الكلي. هذا النموذج الجديد من السياسة النقدية قد لا يحل كل التحديات الحالية، لكنه يمثل خطوة نحو تحقيق توازن أفضل بين الاستقرار المالي والنمو المستدام.

في الختام، لا بد من التأكيد على أهمية تبني مفاهيم جديدة في عالم الاقتصاد العالمي، خاصة تلك التي تجمع بين الفائدة الاقتصادية والأدوات المالية الحديثة، مما يسهم في تقديم حلول فعالة للأزمات المالية التي تواجه الاقتصاد العالمي اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى