مقالات

هل العلاقات أقوى من المال في تحقيق السعادة؟

حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد ملامح السعادة: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا”، وبما قاله إبراهيم بن أدهم: “لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف”. من هنا يتبين أن السعادة لا تأتي بالمال فقط، بل في الرضا والقناعة.

إذًا، كيف يؤثر المال على السعادة؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين الحياة الدنيا والآخرة في سياق المال؟ في هذا المقال، سنناقش هذا السؤال من خلال مفاهيم الإسلام ودراسات علمية معاصرة.

الدين والمال في الإسلام

يقوم المال في الإسلام على تصوّر خاص، حيث الله هو مالك كل شيء، والإنسان مستخلف فيه. المال ليس سلعة بذاته، بل وسيلة للوصول إلى غايات نبيلة، ولا ينتج أي مردود إلا إذا اقترن بالعمل وتحمل المخاطر، حيث يشمل ذلك الربح والخسارة. كما يقوم المال على اقتسام الثروة عبر الزكاة والإرث، ويُحظر الاكتناز والاحتكار والغش، ويُحرّم الربا والإسراف.

الإسلام لا يتعامل مع الملكية بشكل فردي كما في الرأسمالية، بل يعزز مفهوم الجماعة ويحضّ على التعاون، في سعي دائم لحماية الفرد وصون ممتلكاته بشرط أن يكتسب المال من حلال ويُنفَق في حلال.

السعادة في الإسلام والمسيحية
في الإسلام، تتحقق السعادة من التوازن بين الدنيا والآخرة، كما ورد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وهكذا، نجد أن السعادة تتصل بالبحث عن الراحة النفسية التي تأتي من التوجه لله واتباع شرعه.

وفي المسيحية، يقول سيدنا عيسى عليه السلام في الكتاب المقدس: “لا تجمعوا لكم كنوزًا على الأرض… بل اجمعوا لكم كنزًا في السماء”، مما يدل على أن السعادة في المسيحية ترتبط بالقرب من الله والحياة الروحية.

دراسة جامعة هارفارد للسعادة

في دراسة جامعة هارفارد للسعادة (Harvard Study of Adult Development)، التي بدأت في عام 1938 ولا تزال مستمرة حتى اليوم، تم تتبع أكثر من 700 شخص على مدار عقود. أظهرت النتائج أن 80% من الأشخاص الذين حافظوا على علاقات اجتماعية قوية كانوا أكثر سعادة وأطول عمرًا من أولئك الذين كانوا يعيشون في عزلة.

الدراسة أكدت أن التغيرات في مستوى الدخل ليست مؤثرة بشكل كبير على السعادة بعد تحقيق مستوى معين من الراحة المادية، حيث أن 75,000 دولار أمريكي سنويًا في الولايات المتحدة هي الحد الأدنى لتحقيق مستوى معيشة مريح، ولكن بعد ذلك لا تزيد السعادة بشكل ملحوظ.

دراسات أخرى حول المال والسعادة
1. دراسة دانيال كينمان وريتشارد ليتشي: توصلت الدراسة إلى أن بعد مستوى دخل سنوي قدره 75,000 دولار أمريكي، لا يزداد مستوى السعادة بشكل ملحوظ. (مصدر: Psychological Science, 2010).
2. دراسة دانيال كانيمان: أظهرت أن الإنفاق على التجارب الاجتماعية مثل السفر أو الأنشطة الثقافية يمكن أن يزيد السعادة بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالإنفاق على السلع المادية. (مصدر: Journal of Economic Behavior & Organization, 2009).
3. دراسة جايل هيلليغر: أظهرت أن الأشخاص الذين ينفقون 10-15% من دخلهم في الأعمال الخيرية والمساعدة الاجتماعية يشعرون برضا أعلى بنسبة 25% مقارنة بأولئك الذين لا يساهمون في الأعمال الخيرية. (مصدر: Journal of Consumer Research, 2011).

الدراسات العربية حول المال والسعادة
1. دراسة الدكتور أحمد جمال الدين في مصر: قام الدكتور أحمد جمال الدين بدراسة حول تأثير المال على السعادة في المجتمع المصري، حيث أظهرت الدراسة أن الدخل المرتفع يساهم بشكل كبير في تحسين مستوى الرضا النفسي للأفراد، ولكن بدرجة أقل مما هو متوقع. (مصدر: دورية الاقتصاد الإسلامي، 2019).
2. دراسة جامعة الكويت (2018): أظهرت دراسة أجرتها جامعة الكويت أن التوازن بين الحياة الاجتماعية والمهنية له تأثير أكبر على السعادة من الدخل المالي، مشيرة إلى أن المال لا يضمن السعادة بشكل مباشر في ثقافة المجتمع الكويتي. (مصدر: مراجعات علمية في الاقتصاد الكويتي، 2018).
3. دراسة عبد الله العنزي في السعودية: دراسة تشير إلى أن العمل الخيري والتبرعات المالية في السعودية تعزز من شعور الأفراد بالسعادة الداخلية، حيث وجد أن المشاركين في الأعمال التطوعية يشعرون بمستوى رضا أعلى مقارنة بغيرهم. (مصدر: دورية دراسات اجتماعية عربية، 2020).
4. دراسة “السعادة المالية في الوطن العربي”: أظهرت هذه الدراسة التي أجراها مركز دراسات الاقتصاد العربي (2021) أن البلدان التي تحقق مستوى متوسط من الرفاهية الاقتصادية، مثل الإمارات وقطر، تقدم مستويات أعلى من السعادة للمواطنين مقارنة ببعض البلدان ذات الاقتصادات الأقل تطورًا. (مصدر: دراسات اقتصادية عربية، 2021).

السعادة في الدول

في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الدول في إنشاء وزارات خاصة بالسعادة، مثل الإمارات العربية المتحدة التي أنشأت وزارة السعادة في عام 2016. هذه الوزارة تعمل على قياس مستوى السعادة بين المواطنين والمقيمين باستخدام استطلاعات ودراسات، حيث خصصت الحكومة الإماراتية أكثر من 50 مليون درهم لتمويل مبادرات تهدف إلى تحسين رفاهية المجتمع.

تظهر الإحصائيات أن المبادرات الحكومية الخاصة بالسعادة يمكن أن تحقق تقدمًا ملموسًا، ولكن السعادة في النهاية تعتمد أيضًا على العوامل الشخصية والاجتماعية والنفسية للفرد.

خلاصة

كما أظهرت دراسة جامعة هارفارد، أهم مصدر للسعادة ليس المال، بل العلاقات الاجتماعية. ومن هنا نجد أن الإسلام، كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤكد على صلة الرحم وبر الوالدين باعتبارها من أهم عوامل السعادة والطمأنينة.
في الختام، تبقى السعادة متعلقة بما في القلب، وبالعلاقات الإنسانية الطيبة أكثر من أي شيء مادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى