صناعة العدل في ديوان التجارة: حوكمة الشركات بين فقه الأمانة وقضاء التمييز
بقلم: المستشار د. وسيم العبد الله
مقدمة: من فقه الأمانة إلى قوام الحوكمة.
لقد كان المال المشترك، منذ فجر التاريخ، محط عناية الفقهاء والقضاة، إذ هو قوام العمران، وعليه تقوم الأسواق. وفي عصرنا هذا، اتخذت التجارة صروحاً شامخة عُرفت بـ / الشركات/، وهي أوعية تجمع أموال الناس على قاعدة الشراكة والمخاطرة. ولقد كان لزاماً على ولي الأمر أن يضع لها من القوانين ما يضمن سيرها على جادة العدل والإنصاف، ويحفظ حقوق الشركاء من غوائل الهوى وسوء التدبير.
وفي دولة الكويت، التي سارت على نهج الشريعة الغراء والقانون الوضعي الرصين، جاء قانون الشركات رقم 1 لسنة 2016 وتعديلاته، ليقيم بنيان الإدارة على أسس متينة، وليُعلي من شأن الحوكمة، التي هي في جوهرها، امتداد لمبدأ الأمانة الذي أُمرنا به في كتاب الله. فالحوكمة ليست مجرد قواعد إجرائية، بل هي فقه يُنظم العلاقة بين ولاة الأمر في الشركة (المديرين) وبين أصحاب المال (المساهمين)، ويجعل من الشفافية والمساءلة ركناً لا يُهدم.
ولاية المدير.. بين الأمانة والمسؤولية
إن المدير في الشركة، سواء كان عضواً في مجلس إدارة أو مديراً تنفيذياً، هو أمين على مال غيره، ووكيل عنه في التصرف. ولقد أوجب عليه القانون الكويتي أن يبذل في إدارة الشركة عناية الرجل الحريص، وأن يتقي مواطن الشبهات، فلا يتعارض فعله مع مصلحة الشركة العليا.
ولقد كان لزاماً على القضاء أن يضع ميزاناً دقيقاً لتقدير هذه المسؤولية، فلا يُعاقب المدير على مجرد الخسارة التي هي من طبيعة التجارة، ولا يُفلت من العقاب إذا ثبت تقصيره أو تعمده الإضرار. وفي هذا المقام، تجلت حكمة محكمة التمييز الكويتية في اجتهاداتها الحديثة، التي أرست مبدأً جليلاً في حماية المديرين من التعسف، وفي الوقت ذاته، حماية أموال المساهمين من التبديد.
وقائع قضائية من محكمة التمييز: سيف العدل ودرع الحوكمة
لقد أكدت محكمة التمييز في طعون حديثة (منها الطعن رقم 167 لسنة 2023 تجاري، جلسة 28/11/2024) أن مناط مسؤولية المدير لا تقوم إلا على /الخطأ الجسيم / أو / التعمد/ في الإضرار بمصالح الشركة. فليس كل خطأ يقع فيه المدير يوجب مساءلته، بل يجب أن يكون الخطأ فادحاً، أو أن يكون قد سعى لتحقيق مصلحة شخصية على حساب الشركة.
المبدأ القضائي: “إن مسؤولية المدير لا تُبنى على مجرد الخسارة التي قد تقع للشركة نتيجة لتقلبات السوق أو سوء التقدير الذي لا يرقى إلى درجة الخطأ الجسيم، بل يجب أن يثبت المدعي أن المدير قد ارتكب غشاً أو خطأً جسيماً أو إضراراً متعمداً بمصالح الشركة، وإلا كان في ذلك تضييق على حرية الإدارة وتعطيل لمسيرة التجارة.”
وفي سياق متصل، شددت المحكمة على أن عزل المدير لا يكون إلا بشروط، وأن قرار الجمعية العمومية بعزله يجب أن يكون مسبباً ومبنياً على وقائع ثابتة تشير إلى إخلاله الجسيم بواجبات ولايته. وهذا الاجتهاد هو صمام أمان يضمن استقرار الإدارة ويمنع التلاعب بقرارات العزل الكيدية.
الحوكمة التقنية.. الشورى في العصر الرقمي
إن الحوكمة، في مفهومها الحديث، هي الآلية التي تضمن تطبيق مبدأ الشورى والعدل في إدارة الشركات. وهي تتطلب اليوم، في ظل الثورة الرقمية، أسلوباً تقنياً حديثاً يواكب سرعة العصر.
إن الركن الفقهي للحوكمة هو الأمانة والشفافية، ويقابله قانونياً الإفصاح عن المعلومات الجوهرية والتقارير المالية. أما الركن التقني الحديث في هذا المضمار، فيتمثل في استخدام السجلات الرقمية لضمان عدم التلاعب بالبيانات، والمنصات الإلكترونية لعرض القوائم المالية فوراً.
أما ركن الشورى والرقابة، الذي يقتضي تشكيل لجان متخصصة ومشاركة المساهمين في الجمعيات العمومية، فيُترجم تقنياً إلى عقد الجمعيات العمومية عن بعد باستخدام تقنيات التصويت الإلكتروني الآمن، وتطبيق الذكاء الاصطناعي في تحليل المخاطر.
ويكتمل البنيان بركن المساءلة والامتثال، الذي يحدد مسؤوليات مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين. ويُعزز هذا الركن ببرامج الامتثال الآلي التي تراقب التزام الشركة بالقوانين واللوائح بشكل مستمر، ونظم إدارة المخاطر الرقمية.
إن المدير الذي يتبنى هذا الأسلوب التقني في الحوكمة، يكون قد استعمل أحدث الوسائل لدرء المفاسد وجلب المصالح، وهو ما يُعد دليلاً على بذله عناية الرجل الحريص.
نصائح لمديري الشركات: سبيل الرشاد في ديوان التجارة
يا أيها المدير، إن ولايتك أمانة ثقيلة، فاجعل من هذه النصائح سراجاً لك في درب الإدارة:
1– اتقِ مواطن التعارض: اجعل مصلحة الشركة فوق مصلحتك الشخصية، وتجنب أي تعامل يكون فيه لك أو لأحد أقاربك مصلحة مباشرة أو غير مباشرة، إلا بعد إفصاح كامل وموافقة الجمعية العمومية.
2- استمسك بالحوكمة: لا تجعل الحوكمة مجرد حبر على ورق، بل اجعلها منهج عمل، وادعم لجان التدقيق والرقابة، فإنها عون لك على حمل الأمانة.
3 – وثّق كل قرار: في عصرنا الرقمي، لا يكفي القول، بل يجب التوثيق الدقيق لكل قرار إداري، مع بيان أسبابه والأسس التي بُني عليها، فإن هذا هو درعك أمام المساءلة القضائية.
4- أحط علماً بالقانون: لا تتخذ قراراً جوهرياً إلا بعد استشارة أهل الفقه والقانون، فإن الجهل بالقانون لا يعفيك من المسؤولية، ولقد قالوا: “من استشار ما خاب”.
5- اعتنِ بالتقنية: استخدم أحدث التقنيات في إدارة المخاطر والامتثال، واجعل من الشفافية الرقمية سبيلاً لكسب ثقة المساهمين والمستثمرين.
في نهاية المطاف العبرة والتعلم:
إن إدارة الشركات في ظل القانون الكويتي الحديث، هي مزيج بديع بين فقه الأمانة الذي ورثناه، وقضاء التمييز الذي صقلته التجارب، والتقنية الحديثة التي أوجبها العصر. فليعلم كل مدير أن ولايته مسؤولية، وأن العدل هو أساس الملك، وأن الحوكمة هي سفينة النجاة التي تعبر بالشركة إلى بر الأمان، وتحفظ لها مكانتها في ديوان التجارة. وفي ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.




