مقالات

أمريكا وأوروبا…والحرب التجارية

 بقلم –  ليما راشد الملا

يبدو أن الحديث عن العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا لم يعد حدثًا عابرًا في المشهد الاقتصادي العالمي، بل ضرورة تُفرض مرارًا وتكرارًا بسبب خطورتها وأثرها المباشر على استقرار الاقتصاد الدولي. فكل تطور في هذا الملف لا يغيّر فقط موازين القوة بين ضفتي الأطلسي، بل يعيد تشكيل النظام التجاري العالمي بأسره.

على مدى عقود، كانت الشراكة بين أمريكا وأوروبا هي الركيزة التي بُني عليها الاقتصاد الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. تحالف متين جمع بين المصالح الاقتصادية والقيم السياسية والدفاعية. غير أن السنوات الأخيرة كشفت تصدعات واضحة في هذا الجدار، مع تصاعد لغة المصالح الوطنية على حساب مفاهيم التعاون والتحالفات التقليدية.

تحوّل في النبرة الأوروبية

في تصريحات لافتة هذا العام، قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن المصالح المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة “قد لا تستمر كما كانت”، مشيرًا إلى أن العلاقات الاقتصادية تمرّ بمرحلة دقيقة. أما وزير المالية الألماني فذهب أبعد من ذلك، محذرًا من احتمال لجوء الاتحاد الأوروبي إلى “إجراءات تجارية مضادة” إذا لم يتم التوصل إلى تفاهم جديد ينظم الرسوم الجمركية.

هذا التوتر المتصاعد ليس جديدًا، بل هو امتداد لسياسات الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الذي أعاد إلى الواجهة شعار “أمريكا أولًا”، معتمدًا نهجًا حمائيًا يعتبر أن واشنطن تتحمل عبئًا اقتصاديًا غير عادل في علاقاتها مع الحلفاء.

ترامب وسياسة الحمائية المتجددة

منذ عودته إلى البيت الأبيض، أعاد ترامب تطبيق استراتيجية الرسوم “المتبادلة”، معتبرًا أن الاقتصاد الأمريكي خسر مليارات الدولارات لصالح أوروبا بسبب “اتفاقات غير متكافئة”.

وفي أبريل 2025، أعلنت واشنطن ما أُطلق عليه “ضرائب يوم التحرير” (Liberation Day Tariffs)، وهي رسوم عامة بنسبة 10٪ على الواردات، مع نسب أعلى على بعض السلع الأوروبية الحساسة.

لكن في يوليو 2025، وبعد ضغوط أوروبية متصاعدة، توصل الجانبان إلى اتفاق إطار تجاري جديد بعنوان “التجارة المتبادلة والعادلة والمتوازنة” (Reciprocal, Fair, and Balanced Trade). نص الاتفاق على تحديد سقف أقصى للتعريفات الأمريكية على السلع الأوروبية عند 15٪، مع إعفاء قطاعات استراتيجية مثل الطيران والأدوية والمكونات الكيماوية من أي رسوم جديدة.

في المقابل، وافق الاتحاد الأوروبي على خفض تدريجي للرسوم المفروضة على المنتجات الصناعية الأمريكية وتوسيع الوصول إلى الأسواق الزراعية الأوروبية لبعض السلع الأمريكية. كما تضمن الاتفاق مراجعة مشتركة لقواعد المنشأ والمعايير الفنية بهدف تقليل الحواجز غير الجمركية.

ورغم أن هذا الاتفاق خفف من حدة التوتر مؤقتًا، فإنه لم يحلّ جوهر الأزمة، خصوصًا في ملفات الفولاذ والألومنيوم التي لا تزال تخضع لتعريفات مرتفعة تصل إلى 50٪.

أرقام تكشف عمق التحدي

يبلغ حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نحو تريليوني دولار سنويًا، ما يجعل أي اضطراب بين الجانبين ذا أثر فوري على الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، تسجل واشنطن عجزًا تجاريًا يقدر بـ 236 مليار دولار لصالح أوروبا، وهو ما يصفه ترامب بأنه “اختلال خطير في العدالة التجارية”.

وفقًا لتقديرات المفوضية الأوروبية، فإن فرض رسوم إضافية بنسبة 50٪ على السلع الأوروبية – إذا حدث – قد يؤدي إلى خسائر تتجاوز 350 مليار دولار في الناتج المحلي للقارة خلال ثلاث سنوات، ويهدد مئات الآلاف من الوظائف في قطاعات السيارات والصناعات الثقيلة والكيماوية.

توازن هشّ وتحالف يتغيّر

أوروبا تجد نفسها اليوم بين المطرقة والسندان: من جهة، لا تستطيع التفريط في السوق الأمريكية التي تمثل أكبر شريك تجاري لها، ومن جهة أخرى، لم تعد تقبل دور “الشريك التابع” في معادلة اقتصادية غير متكافئة.

وقد بدأت بروكسل فعليًا في دراسة إجراءات كردٍّ مضاد تشمل فرض ضرائب على المنتجات التقنية الأمريكية والسيارات الكهربائية، إلى جانب تسريع اتفاقيات التجارة مع آسيا وأمريكا اللاتينية لتقليل الاعتماد على واشنطن.

الحديث الذي يجب تكراره مرارًا وتكرارًا

إن الحديث المتكرر عن هذا الملف ليس تكرارًا إعلاميًا بل ضرورة تحليلية. فكل خطوة في هذا الصراع تؤثر على سلاسل الإمداد، والاستثمارات، وتدفقات التجارة العالمية.

الحرب التجارية المحتملة بين أمريكا وأوروبا ليست مجرد صراع رسوم، بل تأكيد لتحوّل استراتيجي في موازين القوة داخل الغرب نفسه.

وإذا لم تُترجم اتفاقات يوليو إلى التزامات عملية، فإن التحالف الاقتصادي الأطلسي قد يجد نفسه أمام اختبارٍ حقيقي، حيث لا تُقاس العلاقات بعد اليوم بالتحالفات التاريخية، بل بميزان المصالح والرسوم الجمركية.

هل التوترات الأمريكية–الأوروبية مجرد أزمة مؤقتة في العلاقات التاريخية، أم بداية عصر جديد يعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي العالمي؟

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى