العقار

مؤشر تحمل تكلفة السكن: تطور المفهوم وأهميته بعد الأزمة المالية العالمية

مقدمة

يُعتبر السكن أحد أهم الاحتياجات الأساسية للأفراد والمجتمعات، كما يلعب دورًا حيويًا في استقرار الاقتصاد الكلي والنمو الاجتماعي. ومع تزايد التحديات الاقتصادية العالمية في أعقاب الجائحة وعودة التضخم، تصدرت أزمة تحمل تكلفة السكن المشهد العالمي، مما أدى إلى تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. وقد ازدادت هذه الأزمة في الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، وألمانيا، حيث تراجعت القدرة على تحمل تكلفة السكن إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية.

مفهوم مؤشر تحمل تكلفة السكن

يشير مؤشر تحمل تكلفة السكن إلى قدرة الأسر على شراء أو استئجار مسكن دون التضحية بالاحتياجات الأساسية الأخرى. ويُقاس هذا المؤشر باستخدام عدة معايير، أبرزها:
1. نسبة السعر إلى الدخل: مقارنة أسعار المساكن بدخل الأسرة.
2. نسبة تكاليف السكن إلى الدخل: نسبة الإنفاق على القروض العقارية أو الإيجار من إجمالي الدخل.
3. مؤشر القروض العقارية: يقيس قدرة الأسرة على سداد أقساط القرض العقاري بناءً على دخلها مقارنة بمستوى الدخل المطلوب للحصول على قرض مسكن عادي.

أوضح الباحثون Biljanovska, Fu, and Igan (2023) أن المؤشر الأخير يقدم صورة أعمق لأزمة تحمل التكلفة، حيث ينظر إلى قدرة الأسرة على تحمل أقساط القروض دون الإضرار بالاحتياجات المعيشية. وإذا تجاوز المؤشر قيمة 100، فهذا يعني أن المساكن أقرب إلى المتناول، أما إذا انخفض عن 100، فهذا يعكس ضعف القدرة على تحمل التكلفة.
مثال عملي لحساب مؤشر القدرة على تحمل تكلفة الإسكان:

لنفترض أننا نريد حساب مؤشر القدرة على تحمل تكلفة الإسكان في مدينة معينة، بناءً على نسبة تكلفة السكن إلى دخل الأسرة. الخطوات كالتالي:

  1. البيانات المطلوبة:
    • متوسط دخل الأسرة السنوي: 20,000 دولار أمريكي.
    • متوسط سعر شراء الوحدة السكنية: 200,000 دولار أمريكي.
    • متوسط تكلفة الإيجار السنوي: 12,000 دولار أمريكي.
    • الحد الأقصى المقبول (المعياري) لنسبة تكلفة السكن إلى الدخل: 30% (وهو نسبة متفق عليها عالميًا).
  2. حساب النسبة المئوية لتكلفة السكن:

أ. حساب تكلفة السكن نسبةً إلى الدخل (للإيجار):
• تكلفة الإيجار السنوي = 12,000 دولار.
• متوسط الدخل السنوي = 20,000 دولار.

ب. مقارنة النتيجة بالحد المعياري المقبول:
• الحد المقبول عالميًا هو 30%.
• نسبة 60% تعني أن الأسرة تنفق 60% من دخلها السنوي على السكن، أي ضعف الحد المقبول.

  1. مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن:

صيغة المؤشر:

الصيغة المستخدمة لقياس مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن تقيس النسبة بين تكلفة السكن السنوية ودخل الأسرة السنوي
=ناتج قسمة تكلفة السكن السنوية / دخل الأسرة السنوى

التطبيق:

  1. تفسير النتيجة:
    • مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن = 50.
    • عندما يكون المؤشر أقل من 100، فهذا يعني أن تكلفة السكن غير ميسورة مقارنة بالدخل.
    • كلما اقترب المؤشر من 100، زادت القدرة على تحمل تكلفة السكن.
  2. خلاصة المثال:

في هذه الحالة:
• الأسرة تنفق 60% من دخلها على الإيجار، وهو ما يتجاوز الحد المقبول عالميًا (30%).
• مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن بلغ 50، مما يشير إلى أزمة تحمل واضحة.
• الحلول المحتملة: زيادة الدخل، خفض تكاليف الإيجار، أو تقديم دعم حكومي.

تطبيق مشابه لشراء السكن:

نفس المنهجية تُستخدم لحساب مؤشر تكلفة الشراء عبر تقدير الأقساط السنوية لرهن عقاري وتكلفته مقارنة بالدخل السنوي للأسرة.

تطور أزمة تحمل تكلفة السكن
تطور مؤشر تحمل تكلفة السكن في 40 بلداً منذ عام 1970 حتى الوقت الحالي، وفق التغيرات الزمنية للأزمة:
1. 1970-1990: خلال هذه الفترة، كانت القدرة على تحمل تكلفة السكن مستقرة نسبيًا، حيث تراوحت المؤشرات ضمن مستويات معقولة تعكس توازنًا بين أسعار المساكن ومستويات دخل الأسر.
2. 1990-2008: بدأت أسعار المساكن ترتفع تدريجيًا بوتيرة تفوق نمو دخل الأسر، مما أدى إلى ضعف تدريجي في قدرة الأسر على تحمل التكاليف. بلغت الأزمة ذروتها مع بداية الأزمة المالية العالمية في 2008، والتي أدت إلى انهيار كبير في أسعار العقارات، مما ساهم مؤقتًا في إعادة القدرة على تحمل السكن.
3. 2010-2020: بعد الأزمة المالية العالمية، أدى تخفيض أسعار الفائدة إلى تحفيز سوق العقارات، مما أعاد النشاط إلى السوق، إلا أن الأسعار عاودت الارتفاع مرة أخرى بعد عام 2015 بوتيرة أسرع من دخل الأسر، مما أضعف القدرة على تحمل التكلفة.
4. 2020-2023: خلال السنوات الأخيرة، أدى ارتفاع أسعار الفائدة بالتزامن مع ارتفاع أسعار المساكن إلى تراجع حاد في قدرة الأسر على تحمل تكلفة السكن.

العوامل الرئيسية المؤثرة
1. أسعار الفائدة المرتفعة: لعبت الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة دوراً محورياً في مضاعفة تكلفة الاقتراض، ما قلل من قدرة الأسر على شراء المنازل حتى مع ثبات الأسعار نسبيًا.
2. الاختلال بين العرض والطلب:
• الارتفاع المستمر في أسعار المساكن ناتج عن محدودية المعروض وزيادة الطلب، خصوصاً في المدن الكبرى.
• الأزمات الاقتصادية غالباً ما تُعيد توازن السوق مؤقتاً، كما حدث في 2008، قبل أن تعود الأسعار للارتفاع بفعل السياسات التحفيزية.
3. ضعف نمو دخل الأسر: التفاوت الكبير بين نمو دخل الأسر وزيادة تكاليف السكن كان له تأثير كبير على القدرة على تحمل التكلفة. مع تراجع الأجور الحقيقية في العديد من الأسواق، أصبح من الصعب على الأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل تحمل تكاليف السكن، مما أدى إلى زيادة في عدد الأسر التي تواجه صعوبة في دفع الإيجار أو أقساط القروض العقارية.
4. التضخم الاقتصادي: زيادة التضخم كانت أحد العوامل التي ساهمت في ارتفاع تكلفة السكن. عندما ترتفع أسعار السلع الأساسية مثل الغذاء والطاقة، يتم تحويل جزء من الإنفاق إلى هذه السلع الضرورية، مما يقلل من قدرة الأسر على دفع تكاليف السكن، سواء من خلال الإيجار أو ملكية المنزل.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة

التداعيات الاقتصادية:
1. ضعف الاستهلاك: مع ارتفاع تكلفة السكن، تصبح الأسر مجبرة على تقليص إنفاقها في مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والترفيه، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي العام.
2. ارتفاع معدلات التخلف عن السداد: زيادة تكلفة السكن أدت إلى صعوبة تسديد القروض العقارية، مما أدى إلى زيادة معدلات التخلف عن السداد، وهو ما ينعكس سلباً على النظام المالي.
3. عدم الاستقرار في أسواق العمل: عندما تنفق الأسر جزءًا كبيرًا من دخلها على السكن، يقل الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، مما يؤثر على الإنتاجية ويقلل من مرونة سوق العمل.

التداعيات الاجتماعية:
1. زيادة التفاوت الاجتماعي: يصبح من الصعب على الأسر ذات الدخل المحدود أو المتوسط تملك المنازل، مما يؤدي إلى توسيع فجوة الثروة بين الطبقات الاجتماعية.
2. الضغط الاجتماعي: تؤدي أزمة تكلفة السكن إلى زيادة معدلات الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي، مما ينعكس في زيادة التوترات الاجتماعية وأحياناً في الاضطرابات الشعبية.

استجابة الحكومات: حالة كندا

في كندا، كانت هناك استجابة سريعة وفعالة للأزمة التي نتجت عن الزيادة في تكلفة السكن، من خلال تبني عدد من السياسات الحكومية. على سبيل المثال، شهدت كندا تغييرات كبيرة في شروط الرهن العقاري لتخفيف الأعباء على الأسر. حيث تم رفع الحد الأدنى للمقدم وزيادة الشروط المتعلقة بالفترات الزمنية للسداد، كما تم تعديل الإعفاءات الضريبية للمساعدة في تقليل العبء المالي على الأسر. ورغم تلك التعديلات، لا يزال مؤشر تكلفة السكن يُستخدم لتحديد القدرة على تحمل تكاليف المساكن في كندا، مع العمل على تحسين هذه السياسات بشكل مستمر لتلبية احتياجات الأسر.

فقد أعلنت الحكومة الكندية عن إجراءات جديدة لتحسين القدرة على تحمل تكاليف السكن، تشمل تمديد فترة السداد للرهون العقارية المؤمّنة إلى 30 عامًا للمشترين لأول مرة ومشتري المنازل الجديدة، بالإضافة إلى رفع الحد الأقصى للرهون المؤمّنة إلى 1.5 مليون دولار، اعتبارًا من 15 ديسمبر 2024. هذه السياسات تهدف إلى تخفيف العبء المالي على الأسر الكندية وسط استمرار أزمة السكن.

تمديد فترة السداد يمكن أن يخفض الأقساط الشهرية للرهن العقاري بنحو 600 دولار، لكن تأثيره مرهون بعدم ارتفاع أسعار المنازل نتيجة زيادة الطلب. كما أن رفع سقف الرهون العقارية يساعد المشترين، خاصة في المدن الكبرى مثل تورنتو، حيث تتيح السياسة الجديدة شراء منازل بأسعار تتراوح بين 1 و1.5 مليون دولار بدفعة أولى قدرها 75 ألف دولار فقط بدلاً من أكثر من 200 ألف دولار. ومع ذلك، قد تحتاج الأسرة الكندية المتوسطة إلى أكثر من 7 سنوات لتوفير هذه الدفعة، حتى مع ادخار 10% من دخلها الشهري.

وعلى الرغم من هذه الإجراءات، ترى دراسة بنك ديجردان أن تأثير السياسات الجديدة على تحسين القدرة على تحمل التكاليف سيكون محدودًا. فعلى الرغم من تخفيض الأقساط الشهرية، فإن التكاليف الإضافية للتأمين العقاري، إذا دُمجت مع القرض، قد تعوض أي توفير في المدفوعات الشهرية.

تشير الدراسة أيضًا إلى أن الحل الجذري لأزمة السكن يكمن في زيادة المعروض من المنازل. إلا أن قطاع البناء يواجه تحديات كبيرة، منها نقص العمالة وارتفاع تكاليف المواد والبناء، مما يعيق زيادة العرض بشكل كافٍ.

وفي الوقت الذي يتوقع فيه البنك ارتفاعًا طفيفًا في أسعار المنازل خلال العامين المقبلين، فإنه يشير إلى أن ارتفاع الدخل وانخفاض معدلات الفائدة قد يمنعان المزيد من التدهور في القدرة على تحمل التكاليف. ومع ذلك، فإن السياسات الحالية ليست كافية لمعالجة أزمة السكن بشكل جذري، فتحسن الوضع يتطلب خطوات طويلة الأمد لمعالجة القيود في قطاع البناء وتعزيز المعروض السكني بشكل ملحوظ.

التوجهات المستقبلية والسياسات المطلوبة

لحل هذه الأزمة، يجب على الحكومات وضع سياسات فعّالة للتخفيف من تأثير زيادة تكلفة السكن على الأسر. من بين هذه السياسات:
1. تحفيز الإنتاج العقاري: يجب تشجيع الاستثمار في قطاع الإسكان من خلال منح الحوافز الضريبية وتوفير الأراضي اللازمة لبناء المنازل بأسعار معقولة.
2. تطوير برامج القروض الميسرة: زيادة تقديم القروض العقارية ذات الفائدة المنخفضة للمواطنين، لا سيما ذوي الدخل المتوسط والمنخفض، لتسهيل الوصول إلى المساكن.
3. السياسات النقدية: يجب أن تكون هناك سياسة نقدية مرنة تساهم في خفض معدلات الفائدة ودعم القدرة الشرائية للأسر.
4. دعم سوق الإيجار: دعم برامج الإيجار طويل الأجل أو الدعم المباشر للإيجار يمكن أن يساعد الأسر في التخفيف من آثار ارتفاع تكلفة السكن.

.5الحلول الابتكارية: التكنولوجيا العقارية (PropTech)

التكنولوجيا العقارية (PropTech) توفر حلولًا رقمية تقلل من تكاليف تطوير وإدارة العقارات. من بين تطبيقاتها:
• . المنصات الذكية: لتوفير شفافية أكبر في أسعار العقارات وتحسين كفاءة العرض والطلب.
• تطبيقات الإيجار المشتركة: تساعد الأسر على إيجاد مساكن ميسورة.
• الذكاء الاصطناعي: لتحليل الأسواق العقارية وتوقع تغيرات الأسعار، ما يساعد الحكومات على اتخاذ قرارات أفضل.

• نماذج البناء منخفضة التكلفة
تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد: تتيح بناء منازل منخفضة التكلفة بسرعة وكفاءة.
• مواد بناء مستدامة ورخيصة: استخدام مواد قابلة لإعادة التدوير أو المواد الطبيعية لتخفيض التكاليف.
• البناء المعياري (Modular Construction): يوفر الوقت والمال، إذ تُبنى الوحدات في المصانع ثم تُركب بالموقع

التحديات والفرص في دول الخليج لتبني مؤشر تحمل تكلفة السكن

دول الخليج تمتلك إمكانيات كبيرة لتبني مؤشر تحمل تكلفة السكن بفضل احتياطياتها المالية الضخمة، أنظمتها البنكية المتطورة، ورؤيتها الاقتصادية المستقبلية التي تركز على تحسين جودة الحياة. إلا أن هناك صعوبات تواجه تبني المؤشر، منها التذبذب في أسعار النفط وتأثيره على الاستدامة المالية، فضلاً عن عدم توافر معلومات وإحصاءات موحدة عن سوق العقار في دول الخليج رغم أهميته الكبيرة لدخوله ضمن المؤشرات العقارية الدولية. إضافة إلى ذلك، يعوق النمو السكاني السريع تطبيق السياسات المناسبة. رغم هذه التحديات، يمكن أن يسهم المؤشر في تحسين استدامة أسواق الإسكان وضمان العدالة الاجتماعية في المستقبل.

الدول التي تبنت المؤشر

تم تبني مؤشر تحمل تكلفة السكن من قبل عدد من الدول المتقدمة في العالم، أبرزها:
1. كندا: حيث أُجريت تعديلات في شروط الرهن العقاري، بما في ذلك رفع الحد الأدنى للمقدم وتحديد فترات سداد أقصر، ما جعل من الصعب على العديد من الأسر تحمل تكلفة المساكن. ورغم هذه التعديلات، لا يزال مؤشر تكلفة السكن يُستخدم لتحديد القدرة على تحمله في كندا.
2. الولايات المتحدة الأمريكية: اعتمدت بعض الولايات هذا المؤشر في تقييم فعالية برامج الإسكان الاجتماعي.
3. أستراليا: حيث يُستخدم المؤشر لقياس تأثير تكاليف السكن على الأسر ذات الدخل المنخفض.
4. المملكة المتحدة: التي تعتبر من بين الدول التي أولت اهتمامًا كبيرًا لقياس تكلفة السكن وتوفير حلول مبتكرة للأسر.

الخاتمة

إن أزمة تحمل تكلفة السكن تتطلب استجابة شاملة من الحكومات والقطاع الخاص على حد سواء. من خلال تبني سياسات مرنة ومبتكرة، يمكن التخفيف من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن هذه الأزمة. كما أن مؤشر تحمل تكلفة السكن يُعد أداة مفيدة في هذا السياق، ليس فقط لفهم تطور الأزمة، ولكن أيضًا لتحديد السياسات التي يمكن أن تسهم في تحسين الوضع الحالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى