مقالات

ترامب والكونغرس: معركة الضرائب والإنفاق التي تهز أركان السياسة الاقتصادية الأمريكية

واشنطن لم تنم في الأيام الأخيرة. في قلب العاصمة الأميركية، دارت واحدة من أكثر المعارك التشريعية شراسة في العقد الأخير، معركة لم تكن فقط حول الأرقام، بل حول الفلسفة التي يجب أن تحكم علاقة الدولة بمواطنيها. مشروع قانون الضرائب والإنفاق الذي قاده الرئيس دونالد ترامب، وتم تمريره بصعوبة من مجلس النواب بعد موافقة مجلس الشيوخ، لم يمر مرور الكرام، بل كشف عن تصدعات داخلية في الحزب الجمهوري، وأعاد إشعال الخلاف القديم بين من يرون في الدولة ملاذًا اجتماعيًا، ومن يرونها عبئًا على حرية السوق.

مشروع القانون: تخفيضات ضريبية، اقتطاعات اجتماعية، وديون متفاقمة

هذا القانون ليس مجرد تعديل مالي، بل إعادة تشكيل جذرية لأولويات السياسة الاقتصادية والاجتماعية الأميركية. فمن جهة، يمدد التخفيضات الضريبية التي أقرها ترامب عام 2017، ويقدم إعفاءات إضافية لأصحاب الدخل المنخفض وكبار السن. ومن جهة أخرى، يُجري اقتطاعات صارمة في برامج الرعاية الاجتماعية مثل “ميديكيد” و”سناب”، في مقابل توسيع الإنفاق على الدفاع وأمن الحدود.

ورغم أن الجمهوريين يحتفظون بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب، فإن تمرير القانون لم يكن سهلًا. فقد عارضه عدد من الجمهوريين المحافظين، محذرين من تداعياته المالية الخطيرة، إذ تشير التقديرات إلى أن القانون قد يضيف ما بين 3.3 إلى 5 تريليونات دولار إلى الدين القومي الذي يبلغ حاليًا نحو 36.2 تريليون دولار خلال العقد المقبل.

لمحة موجزة عن أبرز بنود القانون الجديد

أقر مجلس الشيوخ مشروع قانون ترامب للضرائب والإنفاق في 1 يوليو 2025، بأغلبية 51 مقابل 50، بعدما رجّح نائب الرئيس جيه. دي. فانس كفة التصويت. يتضمن القانون تمديدًا دائمًا لتخفيضات ضريبة الدخل لعام 2017، مع إعفاءات جديدة تستهدف العاملين بالساعة وأصحاب الدخل المحدود. كما يوسّع مخصصات الدفاع وأمن الحدود، ويضخ استثمارات في البنية التحتية الجوية.

في المقابل، يقترح خفضًا جذريًا بمقدار تريليون دولار في برامج مثل “ميديكيد” و”سناب”، إلى جانب تقليص الحوافز الضريبية للطاقة النظيفة. ووفق تقديرات غير حزبية، قد يؤدي القانون إلى إضافة ما بين 3.3 و5 تريليونات دولار إلى الدين العام خلال عقدواحد.

هذا المزج بين خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الدفاعي على حساب البرامج الاجتماعية أثار انقسامًا داخل الحزب الجمهوري ذاته، فيما أبدت حتى وسائل إعلام محافظة مخاوفها من مخاطره المالية، مع تحذيرات من تآكل شبكة الأمان الاجتماعي وتحول في بنية النظام الضريبي لصالح الفئات الأعلى دخلًا.

الوجه الإنساني للأرقام: من سيفقد الرعاية؟

بعيدًا عن العناوين والخطابات، فإن ما يعنيه هذا القانون فعليًا هو أن نحو 12 مليون أميركي قد يفقدون التغطية الصحية، معظمهم من الفئات الأكثر ضعفًا: كبار السن، الأشخاص ذوو الإعاقة، الأطفال، وسكان المناطق الريفية. وتُشير الدراسات إلى أن هذه التخفيضات قد تؤدي إلى زيادة في عدد الوفيات تصل إلى 51,000 سنويًا بسبب تراجع الوصول إلى الرعاية.

ولأن الأرقام لا تعيش في فراغ، فإن الأثر سيمتد إلى وظائف في قطاع الرعاية الصحية، ومستشفيات مهددة بالإغلاق في ولايات كاملة، الأمر الذي دفع الجمهوريين لإدراج مخصصات طارئة بقيمة 50 مليار دولار لدعم المستشفيات الريفية كخطوة احتوائية.

 

ترامب: ضغوط شخصية ونفوذ لا يُنكَر

ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض مدعومًا بشعبية قوية داخل الحزب الجمهوري، لم يكتف بمراقبة التصويت. بل قاد حملة ضغوط شخصية على أعضاء الكونغرس الجمهوريين، بمكالمات هاتفية في وقت متأخر من الليل، وتغريدات تحثّ على الولاء الحزبي. واحدة منها جاءت حادة.

وقد نجحت هذه الضغوط جزئيًا، لكنها لم تمنع بعض الأصوات من التمرد. السناتور الجمهوري توم تيليس، أحد الرافضين، أعلن أنه لن يترشح لولاية جديدة، تعبيرًا عن رفضه لتحول الحزب نحو ما وصفه بـ ” العدمية المالية”.

الديمقراطيون: صوت الأقلية لا يصمت

في الطرف الآخر، أطلق الديمقراطيون هجومًا سياسيًا مكثفًا ضد المشروع. زعيمهم في مجلس النواب، حكيم جيفريز، ألقى خطابًا استمر 8 ساعات و46 دقيقة، واصفًا القانون بأنه:

رغم أن الديمقراطيين يفتقرون إلى الأصوات الكافية لعرقلة تمرير القانون، فقد نجحوا في تسجيل موقف قوي للرأي العام، يُبرز البدائل الاجتماعية والاقتصادية التي يدافعون عنها في مواجهة سياسات التقشف الموجهة نحو الطبقات الدنيا.

انقسام داخلي… وهوية متنازع عليها

المشهد التشريعي الأخير لا يعكس مجرد صراع بين حزبين، بل انقسامًا داخليًا عميقًا داخل الحزب الجمهوري نفسه، بين جناح متشدد يدفع نحو خفض دور الدولة، وجناح أكثر اعتدالًا يتحسس أثر السياسات على المجتمع الهش.

المفارقة أن الحزب الذي طالما تبنّى شعار “الاستدامة المالية” يجد نفسه اليوم وراء واحد من أكبر مشاريع الإنفاق في تاريخ الولايات المتحدة، ولكن هذه المرة لصالح سياسات ضريبية ودفاعية، وليست اجتماعية.

خاتمة: ما بعد التمرير… وماذا عن الأسواق؟

الآن وقد أُقر القانون في مجلسي الشيوخ والنواب، وتوجه إلى البيت الأبيض للتوقيع، فإن صفحة جديدة من السياسة الاقتصادية الأميركية على وشك أن تُكتب. لكن الأسئلة الجوهرية لم تُحسم بعد:

* هل تحقق هذه السياسات النمو الموعود؟

* هل يمكن تحمّل هذه القفزة غير المسبوقة في الاقتراض العام؟

* هل ستتعمق الفجوة الطبقية أكثر، أم تنجح الإصلاحات في تحفيز الاقتصاد ككل؟

* وما هو تأثير هذا القانون على الأسواق المالية؟

هل سيكون دفعة إيجابية تعيد للأذهان نمو الأسواق في عهد ترامب الأول، أم أن شبح العجز والتضخم سيهيمن على توقعات lالمستثمرين؟

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى