مقالات

دروس من العالم: كيف تعاملت الدول مع أزمة الإيجارات القديمة؟

 

د. محمد جميل الشبشيري

تواجه مصر تحديًا معقّدًا في ملف الإيجارات القديمة، وهو ما يستدعي الاطلاع على تجارب دولية نجحت في التعامل مع أزمات مشابهة، كلٌ بحسب سياقه الاقتصادي والاجتماعي. في هذا المقال، نعرض نماذج من أبرز تجارب الدول، لاستخلاص دروس يمكن أن تضيء طريق الإصلاح في مصر.

اختُصرت التجارب سعيا نحو الإيجاز والتركيز على الرسائل الأساسية، مع الحفاظ على دقة المعلومات. وقد تم توثيق جميع البيانات والإحصاءات من مصادرها الأصلية لضمان المصداقية. كما رُوعي تضمين الأثر العملي لكل تجربة مع حذف التفاصيل غير الضرورية أو المكررة واستعراض أكبر عدد من التجارب.

في المقالات السابقة، استعرضنا حجم مشكلة الإيجارات القديمة في مصر والآثار الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة لتحريرها، واليوم نستكشف تجارب دولية متنوعة في التعامل مع هذه المشكلة، لاستخلاص الدروس المستفادة للحالة المصرية.

الأردن: التدرج والمراجعة المستمرة

بدأ الأردن بإصلاحات تدريجية منذ قانون المالكين والمستأجرين رقم 11 لعام 1994، عبر خطة انتقالية استمرت 15 عامًا. هذا النهج أدى إلى انخفاض نسبة العقود القديمة من 67% في 1994 إلى أقل من 5% بحلول 2020.

في الفترة من 2010 إلى 2023، ارتفع متوسط الإيجار الشهري بنسبة 38%، مقابل ارتفاع دخل الأسرة بنسبة 32%، مما ساهم في تقليل الأثر الاجتماعي. كما خضع القانون لمراجعات دورية (2000، 2009، 2013) أسهمت في رضا 76% من المالكين و62% من المستأجرين، بحسب دراسة لغرفة تجارة عمان.

وقدمت الحكومة برامج دعم سكني استفادت منها أكثر من 120 ألف أسرة خلال الفترة 2010-2023، بتكلفة 450 مليون دينار أردني (نحو 635 مليون دولار).

فرنسا: الدعم النقدي بدلاً من التجميد

اعتمدت فرنسا على الدعم النقدي المباشر، حيث تستفيد 6.5 مليون أسرة (20% من الأسر) من برنامج إعانة السكن APL بميزانية 17 مليار يورو (18.5 مليار دولار) سنويًا، بمتوسط دعم شهري يبلغ 190 يورو.

الإسكان الاجتماعي يُشكل 17% من مجمل المساكن الفرنسية (5.2 مليون وحدة)، ويستوعب أكثر من 10 ملايين شخص. ووفقًا لوزارة الإسكان (2024)، استطاع 82% من المستفيدين الحفاظ على مساكنهم، مقارنة بـ 45% فقط في دول بلا دعم مماثل.

ألمانيا: التوازن عبر “فرامل الإيجار”

تسكن 54% من الأسر الألمانية في إيجارات، إلا أن الأسعار حافظت على استقرار نسبي، بمتوسط زيادة 3.8% سنويًا خلال العقد الماضي، بفضل نظام Mietpreisbremse الذي لا يسمح بزيادة الإيجار بأكثر من 10% فوق متوسط المنطقة.

الإسكان التعاوني أيضًا ساهم في التوازن، حيث تدير الجمعيات التعاونية 2.2 مليون وحدة، بأسعار تقل 15-20% عن السوق، وتخدم نحو 5 ملايين شخص.

إسبانيا: التمييز بين الاستخدامات

الإيجارات القديمة (قبل 1985) تمثل فقط 2.5% من السوق الإسباني اليوم، بعدما كانت 40% في الثمانينيات. في 2023، سُن قانون جديد يحدّ الزيادة السنوية في الإيجارات بـ 3% لعام 2024، مع وضع مؤشر مرجعي جديد في 2025.

تحررت السوق تدريجيًا، مما ساهم في نمو الاستثمار العقاري بنسبة 35% وزيادة المعروض الإيجاري بنسبة 28% بين 2000 و2010. لكن الأسر الإسبانية تدفع نحو 40% من دخلها للإيجار في المدن الكبرى، وهي نسبة مرتفعة.

بريطانيا: عقود جديدة بعقد اجتماعي مختلف

عدد السكان في القطاع الخاص الإيجاري بلغ 4.6 مليون أسرة (19% من السكان). تراجعت العقود القديمة من 34% عام 1990 إلى أقل من 1% في 2024.

في 2023، ارتفعت الإيجارات بنسبة 9.2%، وهي الأعلى منذ بدء التسجيل. المستأجرون في لندن يدفعون 48% من دخلهم للإيجار، مقابل 37% وطنيًا. وأطلقت الحكومة قانونًا جديدًا لإصلاح الإيجارات يتضمن حظر الطرد دون سبب وتعزيز حقوق المستأجرين.

لبنان: تحرير سريع تحت ضغط الأزمة

تُشكل الإيجارات القديمة 15% من المساكن، أغلبها في بيروت وطرابلس. وفي ديسمبر 2023، أقر قانون لتحرير الإيجارات غير السكنية بعد 4 سنوات، مع تصحيح البدلات من السنة الأولى، وتحديدها بـ 8% من قيمة العقار السوقية.

هذا القرار قد يؤثر على نحو 50 ألف أسرة في ظل أزمة اقتصادية حادة.

روسيا: الخصخصة بديلاً للتحرير

نهج روسيا كان مغايرًا، حيث تم خصخصة أكثر من 50% من المساكن المملوكة للدولة بين 1991 و2000، وبلغت نسبة الخصخصة أكثر من 85% بحلول 2020.

الملكية السكنية وصلت إلى 87% من السكان، ولا تتجاوز نسبة المستأجرين 10%، معظمهم في المدن الكبرى. الإيجارات ارتفعت في 2023 بنسبة 14%، ويبلغ متوسط إيجار الشقة ذات الغرفة الواحدة في موسكو نحو 45,000 روبل (500 دولار)، أي 30% من متوسط الدخل الشهري.

دروس يمكن لمصر الاستفادة منها

1- التدرج أفضل من الصدمة: كحال الأردن وبريطانيا، حيث قلّت العقود القديمة بشكل كبير على مدى 20-30 عامًا.

2- دعم نقدي مباشر: فرنسا أثبتت أن تخصيص دعم مباشر يحافظ على الاستقرار الاجتماعي.

3- مراجعة القوانين دوريًا: الأردن راجع قانونه ثلاث مرات بنجاح، ما أسهم في رضا الطرفين.

4- التمييز بين السكني والتجاري: إسبانيا ولبنان سرّعتا تحرير الإيجارات التجارية مقارنة بالسكنية.

5- توسيع الإسكان الاجتماعي: فرنسا (17%) وألمانيا (2.2 مليون وحدة تعاونية) قدّمتا نماذج ناجحة.

6- تصنيف عقاري واقعي: ألمانيا وبريطانيا نجحتا في ضبط الزيادات وفقًا للموقع والحالة.

هل يمكن تطبيق ذلك في مصر؟

بالتأكيد. يمكن لمصر:

* استحداث برنامج دعم نقدي مشابه لـ APL يغطي الفجوة بين الإيجارات القديمة والقيمة السوقية، بتكلفة 0.5% من الناتج المحلي (نحو 25 مليار جنيه سنويًا)، ليستفيد منه حوالي 3 ملايين أسرة.

* اعتماد مراجعة دورية لقوانين الإيجار كل 3-5 سنوات وفق مؤشرات واضحة.

* التمييز بين العقارات السكنية والتجارية، مع أولوية التحرير للعقود غير السكنية.

* إعادة تأهيل القطاع التعاوني والاجتماعي للإسكان، خاصة في المدن المكتظة.

الخلاصة: لا توجد وصفة واحدة تناسب الجميع، لكن التجارب الدولية تثبت أن الحلول الذكية والمتدرجة، المقرونة بالدعم والحوار المجتمعي، كفيلة بتحقيق العدالة بين المالك والمستأجر، وتحقيق توازن مستدام في سوق الإيجارات.

في المقال القادم

في المقال القادم: “العلاقة المختلة: نمو الأجور والرواتب مقابل تجميد الإيجارات في مصر” – نحلل كيف أدى فشل الحكومات المتعاقبة في زيادة معدلات النمو ومتوسط دخول الأفراد إلى اللجوء لإصدار قوانين استثنائية لتجميد الإيجارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى