مقالات

التصعيد الاقتصادي بين الصين وأمريكا: هل نحن أمام “حرب اقتصادية باردة”؟

بقلم: د. محمد جميل الشبشيري
تشهد العلاقات الصينية-الأمريكية تصعيدًا متزايدًا في التوترات التجارية والاقتصادية، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه المواجهة تتجه نحو “حرب اقتصادية باردة” قد تعيد تشكيل النظام العالمي. ومع استمرار فرض الرسوم الجمركية المتبادلة، واشتداد المنافسة في مجالات التكنولوجيا وسلاسل التوريد، أصبحت الصين في مواجهة تحديات تتطلب سياسات اقتصادية أكثر جرأة لمواجهة تداعيات هذه الحرب التجارية.
التعريفات الجمركية المتبادلة: تصعيد مستمر
لم يكن التصعيد الحالي وليد اللحظة، بل بدأ منذ عام 2018 عندما فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية على سلع صينية تجاوزت قيمتها 550 مليار دولار، مستهدفة قطاعات مثل الإلكترونيات، والآلات، والتصنيع. من جانبها، ردت الصين بتعريفات على سلع أمريكية بقيمة 185 مليار دولار، ركزت بشكل أساسي على المنتجات الزراعية مثل فول الصويا، والذرة، واللحوم.
وفي عام 2023، فرضت بكين رسومًا إضافية بنسبة 25% على واردات فول الصويا الأمريكي، مما زاد من معاناة المزارعين الأمريكيين الذين يعتمدون بشكل كبير على السوق الصينية. ونتيجة لهذه الإجراءات، تراجعت التجارة الثنائية بين البلدين بنسبة 15% في 2022، واستمر التراجع بنسبة 10% إضافية في الربع الأول من 2023. ووفقًا لمنظمة التجارة العالمية (WTO)، قد تؤدي هذه الحرب التجارية إلى خسائر تصل إلى 1.5 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2025.


التداعيات الاقتصادية: من الخاسر ومن المستفيد؟


الاقتصاد الأمريكي تحت الضغط
لم يمر التصعيد دون تكلفة على الاقتصاد الأمريكي، حيث خسر المزارعون الأمريكيون أكثر من 24 مليار دولار منذ 2018 بسبب تراجع الصادرات إلى الصين. كما واجهت شركات التكنولوجيا الكبرى مثل آبل وتسلا تحديات كبيرة بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، واضطرت بعض الشركات إلى نقل عملياتها إلى فيتنام والهند لتجنب التعريفات الجمركية المرتفعة.
لكن التأثير الأكثر وضوحًا كان على المستهلك الأمريكي، حيث أدى ارتفاع الرسوم الجمركية إلى زيادة أسعار المنتجات، مما ساهم في ارتفاع معدل التضخم، وزيادة الضغوط الاقتصادية الداخلية.
الصين: تحديات واستراتيجيات بديلة
على الجانب الآخر، رغم التأثير السلبي للحرب التجارية، تمكنت الصين من إيجاد بدائل استراتيجية لتعويض خسائرها. فقد زادت وارداتها من المنتجات الزراعية البرازيلية بنسبة 30% في 2023، كما ضاعفت استثماراتها في تصنيع أشباه الموصلات محليًا لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية، خصوصًا بعد القيود الأمريكية على صادرات الرقائق الإلكترونية.
ورغم التقلبات التي شهدها اليوان الصيني تحت تأثير الضغوط الاقتصادية، إلا أن السياسات النقدية الصينية ساعدت في احتواء التأثيرات السلبية، مما ساهم في استقرار الأسواق المحلية إلى حد كبير.


الإجراءات الصينية لمواجهة الحرب التجارية


ردًا على الضغوط المتزايدة، أعلنت الحكومة الصينية عن سلسلة من الإجراءات الاقتصادية، أبرزها:

*زيادة العجز المالي إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، مقارنة بـ 3% في 2024، بهدف تعزيز الإنفاق الحكومي وتحفيز الاقتصاد.

*إصدار 1.3 تريليون يوان (179 مليار دولار) من السندات الحكومية طويلة الأجل لدعم مشاريع البنية التحتية والصناعات الاستراتيجية.

*تخصيص 300 مليار يوان لدعم برامج تحفيز الاستهلاك، خاصة في قطاع السيارات الكهربائية والأجهزة المنزلية.


التصعيد التكنولوجي: معركة الهيمنة على المستقبل


لم تعد الحرب التجارية مقتصرة على الرسوم الجمركية فقط، بل امتدت إلى السباق التكنولوجي بين القوتين الاقتصاديتين. ففي عام 2023، فرضت الولايات المتحدة قيودًا صارمة على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين، مما أثر على شركات كبرى مثل SMIC وهواوي. وردت الصين بخطوة مماثلة، حيث فرضت قيودًا على تصدير المعادن النادرة، التي تعد عنصرًا أساسيًا في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، مما يهدد قطاع التكنولوجيا الأمريكي، خصوصًا أن الصين تسيطر على 80% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن.
ومن المتوقع أن تستثمر الشركات الصينية مليارات الدولارات في تطوير تقنيات محلية لأشباه الموصلات، مما قد يقلل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية مستقبلاً.


تأثير التصعيد على الأسواق المالية والعملات


*لم يقتصر التأثير على الاقتصادين الأمريكي والصيني فقط، بل امتد ليشمل الأسواق العالمية، حيث شهدت الأسواق المالية اضطرابات حادة بسبب المخاوف التجارية.

*فقدت الأسهم الأمريكية 3.4 تريليون دولار من قيمتها في أسوأ أداء يومي منذ عامين.

*انخفضت أسعار السلع الزراعية، حيث تراجعت العقود الآجلة لفول الصويا بنسبة 0.3%، وسجلت أسعار القطن في نيويورك أدنى مستوياتها منذ أربع سنوات.

*تأثر سوق العملات العالمية، حيث تراجع اليوان الصيني أمام الدولار، بينما ارتفع الدولار الأمريكي باعتباره ملاذًا آمنًا للمستثمرين.


هل نحن أمام “حرب اقتصادية باردة”؟


تشير التقديرات إلى أن هذا الصراع قد يستمر لسنوات قادمة. ووفقًا لتقرير حديث نشره موقع Visual Capitalist، فإن الناتج المحلي الإجمالي للصين نما بنسبة 74% بين عامي 2015 و2025، في حين نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 28%. رغم تأجيل تفوق الصين على الولايات المتحدة بسبب تباطؤ النمو، فإن التنافس بين القوتين لم يعد يقتصر على التجارة، بل أصبح يمتد إلى:

*السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة.

*إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية.

*إقامة تحالفات اقتصادية وجيوسياسية جديدة.

السيناريوهات المحتملة للمستقبل


السيناريو الأول: التصعيد المستمر (“حرب اقتصادية باردة طويلة”)
في هذا السيناريو، تستمر الصين وأمريكا في تبادل الإجراءات العقابية، مما يؤدي إلى تباطؤ التجارة العالمية، وارتفاع التكاليف الإنتاجية، وزيادة التضخم العالمي.
السيناريو الثاني: التفاوض والتسوية الجزئية
قد تتوصل واشنطن وبكين إلى تفاهمات محدودة لتهدئة الأسواق، مثل تخفيض بعض الرسوم الجمركية أو إعادة صياغة اتفاقيات التجارة، لكنها لن تلغي التنافس الاستراتيجي بينهما.
السيناريو الثالث: إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي
في هذا السيناريو، تتسارع عملية الفصل الاقتصادي (“دي كابلينغ”) بين الصين والغرب، مما يؤدي إلى إعادة توجيه سلاسل التوريد العالمية نحو تكتلات اقتصادية منفصلة، مثل:

*الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما.

*الصين وروسيا والدول الناشئة.


خاتمة: إلى أين يتجه العالم؟


مع استمرار التصعيد، يبدو أن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة من الحرب الاقتصادية، قد تستمر لسنوات وتعيد تشكيل موازين القوى الاقتصادية. وبينما تحاول الصين تحفيز الطلب المحلي ومواصلة التصنيع المحلي، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة هيكلة التجارة العالمية لصالحها.
السؤال الأهم: هل تستطيع القوتان الاقتصاديتان احتواء النزاع قبل أن يتحول إلى مواجهة شاملة، أم أننا نشهد بالفعل ولادة “حرب اقتصادية باردة” جديدة ستغير شكل الاقتصاد العالمي لعقود قادمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى