مقالات

الشركــة ذات المسئوليــة المحــدودة كقــاطرة تاريخيــة

لعل واحداً من أوضح الأمثلة على أهمية تاريخ القانون وأعمقها أثرا هو مسألة ظهور الشركة ذات المسئولية المحدودة. هذا الكيان القانوني الذي لم يكن معروفاً من قبل والذي يعتبر باتفاق أكثر المؤرخين أهم “اختراعات” القرن السابع عشر.

كان القانون الروماني – باعتباره المصدر التاريخي للقوانين المدنية والتجارية – لا يشجع تكوين الكيانات المالية الكبيرة، لأنه كان يتطلب من كل شريك في أي مشروع تجاري أن يكون شريكاً مسئولاً من الوجهة القانونية، فكان يمنع تحديد مسئولية الشركاء، فلا يسمح بقيام كيانات المساهمة المالية إلا لأداء المهام الحكومية.

ولما كانت مثل هذه القيود تحد من الأنشطة التمويلية، فقد ترتب على هذا الأمر أن رؤوس الأموال اللازمة لمشروعات الإنتاج الكبير كانت نادرا ً ما تكون متاحة، إذ كان الناس يحجمون عن المبادرة بتمويل المشروعات الجديدة خوفاً من المجازفة المالية التي قد تتجاوز ديون الشركة – كشخص “اعتباري – لتتعداها إلى الذمم المالية لمؤسسيها بأشخاصهم. بالنهاية، فإن “رأس المال جبان”، كما يقال دائماً.

أما بعد ظهور فكرة الشركة ذات المسئولية المحدودة، فقد أصبحت مسئولية الشركاء تقتصر على حصصهم من رأس مال الشركة دون تجاوزها إلى كامل ذممهم المالية، مما يجنبهم بالتالي التعرض لخطر الإفلاس الشخصي، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في تجرأ الأفراد تمويلياً وإقدامهم على أخذ مخاطرات تجارية واسعة.

لقد كان من أهم النتائج الحضارية التي ترتبت على ظهور الشركة ذات المسئولية المحدودة – هذه الفكرة القانونية/الاقتصادية الجديدة في ظهورها والثورية في آثارها – أنها قد وفرت آلية عملية ومرنة لتمويل مشروعات الثورة الصناعية، بما يعني ذلك من ضخ رؤوس الأموال لتمكين جميع المراحل الحرجة للتصنيع (الأبحاث واستخراج المواد الأولية واستيرادها وبناء المصانع والتصنيع وعداها من خطوات الإنتاج الصناعي).

ورغم بساطة فكرة الشركة ذات المسئولية المحدودة وكونها من مسلّمات القانون التجاري حاليا، إلا أنها شكلت في بداية ظهورها قفزة حقيقية في مفهوم العمل التجاري، لكونها قلصت إلى مدىً كبير من حجم المخاطرة المرتبطة به. بل إن من الباحثين من ينسب التفوق التجاري والسياسي لبريطانيا إبان العهد الفيكتوري الذي ازدهرت فيه الثورة الصناعية إلى الانتشار الواسع لفكرة الشركة ذات المسئولية المحدودة، التي أدت إلى كسر شبه الاحتكار الذي ازدهرت في ظله أعمال شركة الهند الشرقية The East India Company، وهي الذراع التجاري لبريطانيا العظمى إبان أوج توسعها الاستعماري.

وهكذا، فلولا استحداث فكرة الشركة ذات المسئولية المحدودة لما صار لدينا هذا الكم المهول من المنتجات الصناعية التي تملأ بيوتنا ومكاتبنا وشوارعنا.

 

د. مشاعــل عبــد العزيــز اسحــق الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى