إدارة المخاطر الأخلاقية في البنوك: حكايات من قلب عالم المال

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري
في عالم المصارف المعقد، حيث تتشابك الأرقام والقرارات، تبرز إدارة المخاطر كقلب نابض يحمي هذه المؤسسات من العواصف. لكن، هل فكرنا يومًا أن المخاطر لا تقتصر على الأرقام الجامدة أو العمليات اليومية؟ هناك جانب آخر، أكثر حساسية وأعمق تأثيرًا، وهو المخاطر الأخلاقية. هذه المخاطر أشبه بالظل الذي يلاحق السمعة، ويهز أركان الثقة، وقد يطيح بصرح البنك بأكمله.
تخيلوا معي: متى تظهر هذه المخاطر؟ تظهر عندما تنحرف البوصلة الأخلاقية للمؤسسة، عندما تتضارب المصالح، أو عندما يتهاون البعض في تطبيق القوانين، أو حتى عندما ينجرفون وراء صفقات مشبوهة، مدفوعين بجشع الأرباح السريعة. إنها لحظات حرجة تكشف عن جوهر المؤسسة وقيمها الحقيقية.
حكاية جي بي مورغان وإبستين: عندما تعمى الأرباح البصيرة
لنتوقف قليلًا عند قصة بنك (جي بي مورغان) وجيفري إبستين، فهي قصة تحمل في طياتها الكثير من العبر. إنها مثال صارخ على كيف يمكن للرغبة في تحقيق أرباح سريعة أن تحجب الرؤية عن مخاطر أخلاقية قد تكون مدمرة على المدى الطويل. إبستين، هذا الرجل الذي نسج شبكة واسعة من العلاقات مع شخصيات نافذة حول العالم، كانت تحوم حوله شبهات كثيرة منذ بداية الألفية، تتعلق بقضايا استغلال واتجار جنسي.
الغريب والمحير، أنه رغم هذه السمعة الملوثة، استمر البنك في تقديم خدماته المالية له حتى عام 2013. تخيلوا معي، مليارات الدولارات كانت تتدفق عبر حساباته وصناديقه الاستثمارية ومعاملاته المصرفية المتنوعة. لماذا هذا الإصرار؟ السبب كان واضحًا كالشمس: إبستين لم يكن مجرد عميل عادي، بل كان مفتاحًا لشبكة علاقات قوية، تضم رجال أعمال مرموقين ومؤسسي شركات عملاقة. هذه الشبكة فتحت للبنك أبوابًا استثمارية هائلة، ووعدت بأرباح لا حدود لها.
لكن هذا التوسع، للأسف، جاء على حساب القيم الأخلاقية. لقد تجاهلت الإدارة العليا في البنك التحذيرات التي جاءت من داخل المؤسسة، وتغاضت عن الاعتراضات التي أثيرت حول سمعة هذا العميل. لقد طغت بريق الأرباح والصفقات المغرية على مبادئ النزاهة والامتثال. وهذا يكشف لنا عن خلل عميق في طريقة اتخاذ القرار وإدارة المخاطر داخل البنك.
النتائج لم تكن مجرد خسائر مالية، بل كانت ضربة قاصمة للسمعة والأخلاق والقانون. عندما انفجرت قضايا إبستين للعلن، تحولت الأنظار مباشرة نحو جي بي مورغان. تبع ذلك دعاوى قضائية وغرامات باهظة، وتغطية إعلامية سلبية تركت ندوبًا عميقة في صورة البنك كمؤسسة يُفترض أن تكون موثوقة. هذه الأزمة أظهرت بجلاء أن إدارة المخاطر الأخلاقية في المؤسسات المالية ليست مجرد إجراء ثانوي، بل هي حجر الزاوية لحماية السمعة وضمان البقاء في عالم الأعمال، الذي أصبح شديد الحساسية تجاه القيم والمبادئ.
هذه القصة تعلمنا أن الفشل لم يكن فقط في ضعف الرقابة، بل في ثقافة المؤسسة نفسها. لقد تم تفضيل العلاقات والمكاسب السريعة على حساب المبادئ الأساسية. وهذا يعكس غياب الحزم في تطبيق الحوكمة، ويفتح الباب أمام ممارسات تؤدي في النهاية إلى تآكل الثقة، وهي أغلى ما يملكه القطاع المصرفي.
قصص أخرى من سجلات الانحراف الأخلاقي
المشهد المصرفي العالمي مليء بالقصص التي تكشف عن نقاط الضعف الأخلاقية، وهي ليست حكرًا على بنك واحد أو منطقة بعينها. دعونا نلقي نظرة على بعض هذه الأمثلة:
* بنك ستاندرد تشارترد: هذا البنك دفع غرامات ضخمة لأنه تورط في تجاوز العقوبات الأمريكية. لقد سهل معاملات مالية لدول كانت محظورة، وتجاهل كل التحذيرات الداخلية. تخيلوا حجم الضرر الذي لحق بسمعته وثقة عملائه!
* فضيحة دبي المصرفية عام 2008: في خضم الأزمة المالية العالمية، كشفت فضيحة في بنك إقليمي بدبي عن انتشار الرشاوى والفساد في منح القروض العقارية. النتيجة كانت خسائر فادحة، وهزة عنيفة في ثقة الناس بالصيرفة الإسلامية، التي يُفترض أن تكون مبنية على أسس أخلاقية متينة.
* فضيحة بنك إسلامي كبير في الشرق الأوسط عام 2017: التحقيقات في هذه القضية كشفت عن تضارب مصالح واضح في قرارات منح الائتمان. لم تكن هذه القرارات مبنية على أسس مؤسسية سليمة، بل خضعت لضغوط شخصية. وهذا، بالطبع، أثر سلبًا على ثقة المتعاملين بالبنك.
هذه الأمثلة كلها تؤكد لنا حقيقة واحدة: الانحرافات الأخلاقية ليست ظاهرة محلية أو استثناءً. إنها مشكلة عالمية تظهر وتتفشى عندما تضعف الحوكمة، وعندما تُغلّب المصالح الشخصية على المبادئ والقيم.
الأخلاق والحوكمة: صمام الأمان لقلب المؤسسة
في رحاب عالم المال، لم يعد يكفي أن نلتزم بالقوانين واللوائح فحسب. لقد أصبح ترسيخ قيم العدالة والشفافية والنزاهة في صميم كل قرار نتخذه أمرًا لا غنى عنه. إنها ليست مجرد شعارات، بل هي حجر الزاوية الذي تبنى عليه المؤسسات المالية المستقرة والقادرة على الاستمرار والازدهار.
الحوكمة الرشيدة ليست مجرد مجموعة من القواعد الجامدة، بل هي روح المؤسسة التي توجه سلوكها. لا نقيس قوتها بمدى صرامة لوائحها أو استقلالية مجالس إدارتها، بل بقدرتها على غرس الالتزام الأخلاقي الذي يمنع تضارب المصالح ويحمي حقوق الجميع، من المساهمين إلى أصغر المتعاملين.
من هنا، تبرز أهمية البحث عن إدارات متخصصة في الأخلاقيات. هذه الإدارات ليست مجرد أقسام إضافية، بل هي عصب المؤسسة. مهمتها وضع سياسات ومعايير واضحة للسلوك السليم، وتعزيز ثقافة الشفافية التي تشجع الموظفين على الإبلاغ عن أي مخالفات دون خوف، وتوفير تدريب مستمر يضمن أن تكون الأخلاقيات جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحوكمة، وليست مجرد كلمات على ورق.
تخيلوا الحوكمة كصمام أمان يحمي المؤسسة من الانفجار. فوجود مجالس إدارة قوية، ولجان مراجعة مستقلة، وآليات واضحة تفصل بين السلطات داخل البنك، كل ذلك يضمن التعامل المنهجي مع القضايا الحساسة. الشفافية والمساءلة والالتزام بالقوانين، كل هذه العناصر تعزز قدرة البنك على الصمود أمام الضغوط قصيرة المدى التي قد تدفعه نحو قرارات غير حكيمة.
وقصة جي بي مورغان التي ذكرناها سابقًا هي خير دليل على ذلك. غياب الحوكمة الصارمة يفتح الباب على مصراعيه أمام تغليب المصالح الفردية على حساب الاستدامة الطويلة الأمد للمؤسسة. إنها دعوة واضحة لنا جميعًا: لا يمكن للمؤسسات أن تزدهر حقًا إلا إذا كانت مبنية على أسس أخلاقية متينة، تحميها حوكمة رشيدة.
دروس لا تُنسى من قلب التجربة
من خلال هذه القصص والتجارب، يمكننا أن نستخلص ثلاث رسائل جوهرية، أشبه ببوصلة ترشدنا في إدارة المخاطر الأخلاقية في عالم المصارف:
1- المصداقية أولًا، ثم الربحية: قد تبدو الأرباح السريعة مغرية، لكن إذا كانت غير شرعية أو غير أخلاقية، فإنها ستتحول في النهاية إلى خسائر مضاعفة، لا مالية فحسب، بل خسائر في السمعة والثقة يصعب تعويضها.
2- ثقافة الامتثال من الداخل: الرقابة الخارجية وحدها لا تكفي. يجب أن نبني بيئة داخلية تشجع الموظفين على أن يكونوا حراسًا للقيم، وأن يبلغوا عن أي مخالفات يرونها، مع ضمان حمايتهم من أي تبعات سلبية. إنها مسؤولية جماعية.
3- حوكمة قوية ومؤثرة: نحتاج إلى مجالس إدارة ولجان مخاطر لا تنظر فقط إلى الأرقام الضيقة والأرباح قصيرة المدى، بل تتجاوز ذلك لتأخذ في الاعتبار السمعة الطويلة الأمد للمؤسسة واستدامتها. القرارات التي تُبنى على هذه الرؤية هي التي تصنع الفارق.
خاتمة: الثقة هي رأس المال الحقيقي
إن أخطر تهديد يواجه البنوك اليوم ليس في تقلبات الأسواق أو التحديات الائتمانية المعقدة. الخطر الحقيقي يكمن في الانحرافات الأخلاقية التي قد تمس أغلى ما تملكه المؤسسة: الثقة. فمهما بلغت الأرباح المالية، لن تعوض أبدًا خسارة السمعة التي تُبنى على مدى سنوات طويلة.
عندما ندمج الأخلاق في صميم استراتيجية إدارة المخاطر والحوكمة، فإننا لا نضيف مجرد لمسة تجميلية. إننا نبني مؤسسة أكثر صلابة، أكثر قدرة على التكيف مع التحديات، وأكثر استدامة على المدى الطويل. إنها ضرورة جوهرية لقطاع مصرفي لا يكتفي بالربح، بل يسعى إلى النزاهة والمتانة، ليظل جديرًا بثقة الناس.