الكويت

اتحاد شركات الاستثمار ينظم برنامج تدريبي حول “التخطيط المالي وإدارة الموازنات: من دفتر الأرقام إلى صناعة المستقبل”

لم تعد الموازنة اليوم دفتراً صامتاً للأرقام، بل أصبحت حكاية مؤسسة تبحث عن مستقبلها وسط عالم لا يرحم من يتأخر خطوة واحدة. في مكاتب الإدارة العليا، حيث تتخذ القرارات التي تغيّر مصير الشركات، تدور كل عام قصة متكررة لكنها تتجدد بتفاصيلها: تبدأ بهدوء على الورق، ثم تتحول إلى خطة عمل يومية، ثم مع مرور الأشهر، تصبح معياراً يقاس به النجاح والفشل.

في بداية كل موسم مالي، تجلس الفرق التنفيذية أمام جداول متشابكة، تحاول أن تترجم طموحات المساهمين، وتوقعات الأسواق، وقدرات الموارد، إلى خطة مالية واضحة. في تلك اللحظة، لا يكون السؤال: “كم سنربح؟” بل يصبح السؤال الأعمق: “كيف سنضمن البقاء والنمو وسط عاصفة المتغيرات؟”. هنا يظهر جوهر الموازنة والتخطيط المالي كفن وعلوم معاً.

لقد عرف عالم المال والاستثمار تحولات كبيرة خلال العقد الأخير. لم تعد المحاسبة المالية التقليدية، التي تكتفي بتوثيق الماضي، كافية لقيادة المؤسسات إلى الأمام. في المقابل، برزت المحاسبة الإدارية كأداة استباقية تُسلّح صناع القرار بالمعرفة قبل أن تأتي العواصف. فبينما تخبرنا المحاسبة المالية بما حدث، تخبرنا المحاسبة الإدارية بما يمكن أن يحدث، وكيف يمكن أن نُوجّه المسار.

لقد كان هذا هو المحور الأساسي للبرنامج التدريبي المتخصص الذي عقده اتحاد شركات الاستثمار (UIC) من خلال ذراعه التدريبي مركز دراسات الاستثمار (ISC) خلال الفترة 14 – 16 أكتوبر 2025 حول Budgeting, Planning & Management Reporting، والذي قدّم رؤية متكاملة لكيفية بناء مستقبل المؤسسة من خلال أدوات التخطيط المالي. البرنامج لم يكن محاضرة تقليدية، بل رحلة فكرية وعملية أعادت تعريف دور الميزانية بوصفها لغة المؤسسة، لا مجرد ملف محاسبي.

في تلك الرحلة، تبيّن أن الموازنة ليست ورقة يُملأ فيها خانة الإيرادات والمصروفات فحسب، بل مرآة للروح المؤسسية. فعندما يضع فريق الإدارة موازنة للعام المقبل، فإنه في الحقيقة يرسم ملامح مستقبل الشركة، ويقرر أي الفرص سيلتقط، وأي المخاطر سيتفاداها. إنها اللحظة التي تتحول فيها الأرقام إلى قرارات، والقرارات إلى أفعال، والأفعال إلى نتائج.

في السنوات الماضية، عانت العديد من الشركات من فشل في موازناتها، لا لأنها لم تضع أرقاماً دقيقة، بل لأنها لم تضع رؤية حقيقية خلف تلك الأرقام. فالموازنة التي لا تنبني على فهم للسوق، وللموارد، وللاتجاهات الاقتصادية، سرعان ما تتحول إلى حبر على ورق. أما المؤسسة التي تُحسن قراءة بيئتها، وتربط ميزانيتها برؤيتها الاستراتيجية، فهي من تستطيع أن تبحر بثبات في بحرٍ متقلب.

لقد ناقش البرنامج بشكل معمق كيف يمكن للمؤسسات الاستثمارية أن تتعامل مع الموازنة باعتبارها أداة قيادة استراتيجية. فبدلاً من استخدامها لتقييد الإنفاق فحسب، يمكن استخدامها لتوجيه الموارد نحو المجالات الأكثر قيمة. وبدلاً من أن تكون مجرد آلية محاسبة، يمكنها أن تتحول إلى بوصلة تحدد الاتجاه نحو النمو.

ومن بين الدروس التي طُرحت، برزت أهمية أن إعداد الموازنة الناجحة لا يقتصر على الإدارة المالية وحدها. بل هو مشروع مؤسسي جماعي يشارك فيه الجميع: من المبيعات إلى الإنتاج، ومن الموارد البشرية إلى الإدارة العليا. فكل قسم يساهم برؤيته في بناء الصورة الكبرى، وكل رقم يُكتب في الموازنة يعكس قراراً سيؤثر على بقية المنظومة.

 

 

ويزداد تأثير هذه العملية حين تكون الموازنة مرنة، قادرة على التكيف مع التغيرات الاقتصادية المتسارعة. ففي عالم يتغير فيه سعر النفط في أسبوع، وتتحول فيه الأسواق المالية في يوم، تصبح الموازنة التي لا تُراجع دورياً عبئاً بدل أن تكون أداة. من هنا، تبرز أهمية الموازنات المستمرة (Rolling Budgets) التي تسمح بتحديث التوقعات بشكل منتظم، مما يمنح الإدارة قدرة على المناورة الذكية بدلاً من الجمود.

كما ناقش البرنامج مفهوم الموازنة الصفرية والنهج التصاعدي والتنازلي، موضحاً أن اختيار المنهج يجب أن يتناسب مع طبيعة القطاع وهيكل المؤسسة. واستعرض المشاركون دراسة حالة لشركة NovaTech الماليزية التي استخدمت أدوات مالية دقيقة لاتخاذ قرار استثماري مصيري بشأن إطلاق منتجها EcoSmart. لم يكن القرار سهلاً، لكنه كان مبنياً على تحليل عميق شمل موازنات المبيعات والإنتاج وتحليل نقطة التعادل وحساب NPV وIRR، ليتحول من مجرد احتمال إلى مسار نمو فعلي.

لقد أبرزت هذه الحالة أن الموازنة ليست قراراً رقمياً، بل قرار استراتيجي يعيد تشكيل هوية الشركة. كما برزت أهمية فهم تكلفة رأس المال WACC، ودورها في تحديد مدى جدوى المشاريع، إلى جانب إدارة السيولة ورأس المال العامل لضمان مرونة المؤسسة.

وفي ختام هذه الرحلة، جاءت التوصيات العملية واضحة: الموازنة ليست وثيقة حسابية، بل رؤية استراتيجية. يجب أن تكون مرنة، وأن تعكس الواقع، وأن تُدار من قبل فريق واعٍ مدرب، وأن تستفيد من الأدوات التكنولوجية الحديثة للتحليل والتخطيط.

إن المؤسسات التي تنظر إلى الموازنة كقصة تُكتب يوماً بيوم، لا كمستند يُراجع مرة في السنة، هي التي تصنع مستقبلها بأيديها. وفي عالم يتغير بسرعة، ليست الميزة في من يملك أكبر ميزانية، بل في من يملك أذكى موازنة.

 

ختاماً، فإن التخطيط المالي وإدارة الموازنات لم يعودا خياراً ترفياً، بل ضرورة استراتيجية لا يمكن للمؤسسات التي تطمح للاستدامة والنمو أن تغفل عنها. ينبغي أن تتحول الموازنة إلى ثقافة مؤسسية راسخة، وإلى حوار مستمر بين الأرقام والرؤية، بين التخطيط والتنفيذ، بين الطموح والقدرة. وما بين كل رقم يُكتب، هناك قصة تروى — قصة مؤسسة تعرف إلى أين تريد أن تذهب، وكيف ستصل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى