مقالات

خارطة طريق للحل.. مقترحات عملية لتحرير متوازن للإيجارات القديمة

“الحل ليس في الانحياز الكامل للملاك أو المستأجرين، بل في تحقيق توازن يراعي مصالح الطرفين ويحافظ على السلم الاجتماعي” … هذه هي الفكرة الرئيسية التي تدور حولها مقترحات حل أزمة الإيجارات القديمة في مصر

في المقالات السابقة، استعرضنا حجم مشكلة الإيجارات القديمة في مصر، والآثار الاقتصادية والاجتماعية المتوقعة لتحريرها، والدروس المستفادة من التجارب الدولية. واليوم نقدم خارطة طريق عملية لتحرير متوازن للإيجارات القديمة، تحقق العدالة لأصحاب العقارات مع تخفيف الآثار السلبية على المستأجرين.

التدرج في التحرير والفترة الانتقالية

 

– تمديد الفترة الانتقالية وتقسيمها إلى مراحل

التعديلات المقترحة حالياً تتضمن فترة انتقالية مدتها 5 سنوات، وهي فترة قصيرة نسبياً مقارنة بالتجارب الدولية الناجحة. الأفضل تمديد هذه الفترة إلى 9-10 سنوات، وتقسيمها إلى ثلاث مراحل واضحة

المرحلة الأولى (3-4 سنوات):

زيادة تدريجية للإيجارات مع استمرار الحماية القانونية للمستأجرين. في هذه المرحلة، يتم تطبيق زيادات سنوية محددة، مع إعفاء بعض الفئات الضعيفة.

المرحلة الثانية 3 سنوات:

تحرير جزئي مع استمرار الدعم للفئات الضعيفة. في هذه المرحلة، يتم تقليص نطاق الحماية القانونية تدريجياً، مع توسيع برامج الدعم الاجتماعي.

المرحلة الثالثة 3 سنوات:

تحرير كامل تدريجي مع برامج حماية اجتماعية. في هذه المرحلة، يتم الانتقال إلى نظام السوق الحر، مع استمرار برامج الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة.

تقول سعاد محمد، مستأجرة في الستينات من عمرها: “نحن لا نرفض الزيادة، لكن نحتاج وقتاً كافياً للتكيف. تمديد الفترة الانتقالية سيمنحنا فرصة لترتيب أوضاعنا المالية أو البحث عن بدائل مناسبة.”

 

– التدرج في زيادة القيمة الإيجارية

من الأفضل اتباع جدول زمني متدرج لزيادة القيمة الإيجارية، بدلاً من الزيادة المفاجئة بنسبة 20 ضعف:

السنة الأولى: زيادة بنسبة 200% من القيمة الحالية (أي 3 أضعاف)

السنة الثانية والثالثة: زيادة سنوية بنسبة 100% (أي ضعف القيمة السابقة)

السنوات اللاحقة: زيادة سنوية بنسبة 50% حتى الوصول للقيمة المستهدفة

بعد الوصول للقيمة المستهدفة: ربط الزيادة السنوية بمعدل التضخم الرسمي بحد أقصى 10٪؜.

لنأخذ مثالاً عملياً: شقة إيجارها الحالي 70 جنيهاً. وفقاً للتعديلات المقترحة، سيصبح الإيجار 1400 جنيه 20 ضعف بعد 5 سنوات. أما وفقاً للمقترح التدريجي، فستكون الزيادات كالتالي:

 السنة الأولى: 210 جنيه 3 أضعاف

 السنة الثانية: 420 جنيه ضعف السنة الأولى

السنة الثالثة: 840 جنيه ضعف السنة الثانية

السنة الرابعة: 1260 جنيه 1.5 ضعف السنة الثالثة

السنة الخامسة: 1890 جنيه 1.5 ضعف السنة الرابعة

وهكذا يصل الإيجار إلى القيمة العادلة تدريجياً، مما يتيح للمستأجرين التكيف مع الزيادات.

– تصنيف العقارات والمناطق

لا يمكن تطبيق نفس نسب الزيادة على جميع العقارات والمناطق، نظراً للفروق الكبيرة في مستوى الخدمات والحالة الإنشائية.

من لمنطقي تصنيف المناطق إلى أربع فئات (أ، ب، ج، د) حسب مستوى الخدمات والبنية التحتية، وتصنيف العقارات حسب حالتها الإنشائية والصيانة إلى ثلاث فئات، ثم تطبيق نسب زيادة مختلفة لكل فئة.

على سبيل المثال، يمكن تطبيق الزيادة كاملة على العقارات من الفئة الأولى في المناطق (أ)، وتخفيض نسبة الزيادة تدريجياً للفئات الأخرى، مع مراعاة المناطق الأقل دخلاً.

يقول محمد سعيد، أحد ملاك العقارات القديمة: “هذا التصنيف منصف للجميع. فالعقار الذي يقع في منطقة راقية ويتمتع بحالة إنشائية جيدة يستحق إيجاراً أعلى من العقار المتهالك في منطقة شعبية.”

 

آليات الدعم والحماية الاجتماعية

– إنشاء صندوق دعم الإيجارات

على غرار التجربة اللبنانية والفرنسية، يمكن إنشاء صندوق خاص لدعم المستأجرين المتضررين من زيادة الإيجارات.

يمكن تمويل الصندوق من نسبة من الضرائب العقارية (5%)، ومن الموازنة العامة، ووضع معايير واضحة لاستحقاق الدعم، مثل السن، الدخل، الحالة الصحية، وعدد أفراد الأسرة.

كما يمكن تقديم الدعم على شكل قسائم إيجار أو دعم نقدي مباشر، بحيث يغطي جزءاً من الزيادة في القيمة الإيجارية للفئات المستحقة.

تقول فاطمة علي، أرملة في السبعينات من عمرها ومستأجرة: “معاشي 1100 جنيه، وأدفع إيجار 45 جنيهاً. لو زاد الإيجار، سأحتاج إلى دعم حقيقي للاستمرار في العيش بكرامة.

– برنامج الإسكان البديل

من الضروري تطوير برنامج متكامل للإسكان البديل، يوفر خيارات متعددة للمستأجرين الذين لا يستطيعون تحمل الزيادات في الإيجارات.

يمكن تخصيص 25% من مشروعات الإسكان الاجتماعي للمستأجرين المتضررين، وتقديم برامج تمويل عقاري ميسر بفائدة مخفضة 3-4% وفترات سداد طويلة.

كما يمكن إنشاء شراكات مع القطاع الخاص لتوفير وحدات بإيجار متوسط في المدن الجديدة، مع توفير وسائل مواصلات مناسبة لربطها بالمدن القائمة.

يقول أحمد حسن، مستأجر في منتصف العمر: “أفضل الانتقال إلى مدينة جديدة وامتلاك شقة بالتقسيط على أن أظل تحت رحمة زيادات الإيجار. لكن المشكلة في المواصلات وبعد المدن الجديدة عن أماكن العمل.”

– برامج خاصة للفئات الضعيفة

تتطلب بعض الفئات برامج دعم خاصة، نظراً لظروفها الاجتماعية والاقتصادية.

من المهم تطوير برامج خاصة لكبار السن (فوق 65 عاماً) والأشخاص ذوي الإعاقة، تضمن لهم الاستمرار في مساكنهم بإيجارات مخفضة أو الحصول على بدائل سكنية مناسبة..

كما يمكن تقديم إعفاءات أو تخفيضات إضافية للأرامل والمطلقات المعيلات، وربط هذه البرامج بمنظومة الدعم الاجتماعي الشاملة.

 

آليات فض المنازعات وتنظيم العلاقة الإيجارية

– إنشاء لجان متخصصة لفض المنازعات

مع تطبيق القانون الجديد، من المتوقع زيادة النزاعات بين الملاك والمستأجرين، مما يتطلب آليات فعالة وسريعة لفض هذه النزاعات.

يمكن تشكيل لجان على مستوى الأحياء تضم قضاة متقاعدين وخبراء عقاريين، ووضع إجراءات مبسطة وسريعة للفصل في النزاعات، ومنح اللجان صلاحيات إصدار قرارات ملزمة.

هذه اللجان ستخفف العبء عن المحاكم، وتسرع الفصل في النزاعات، وتقلل التكاليف على الأطراف المتنازعة

– المراجعة الدورية للقيمة الإيجارية

على غرار التجربة الأردنية، يمكن وضع آلية للمراجعة الدورية للقيمة الإيجارية.

من المفيد تشكيل لجنة وزارية لمراجعة القيمة الإيجارية كل 3-5 سنوات، وربط الزيادات بمؤشرات اقتصادية موضوعية مثل معدل التضخم ومتوسط الأجور.

كما يمكن وضع حدود قصوى للزيادات 10-15%، لتجنب الصدمات الاقتصادية، وتطبيق نسب مختلفة حسب تصنيف العقارات والمناطق.

– تطوير مؤشرات قياس السوق وتنظيم الإيجارات

من أهم الأدوات التي ينبغي أن ترافق إصلاح سوق الإيجارات في مصر، تطوير مؤشرات دقيقة وموضوعية لقياس أعباء الإيجار، ونسب الشغور السكني، ومستويات دخل الأسر، بما يتماشى مع التجارب الدولية الناجحة، مثل الولايات المتحدة وكندا.

ففي تلك الدول، تعتمد الجهات التنظيمية مؤشرات مثل “عبء الإيجار” لتحديد الأسر المثقلة بالسكن، حيث تُعد الأسرة “مثقلة بالإيجار” (Rent-Burdened) إذا تجاوزت تكلفة الإيجار 30% من دخلها الشهري. كما تُستخدم مؤشرات مثل “نسبة الشغور” لقياس مدى التوازن بين العرض والطلب، و”دخل الأسرة الوسيط” لتقييم القدرة الحقيقية للمواطنين على تحمّل الزيادة في الإيجارات.

اعتماد مثل هذه المؤشرات في مصر سيوفر أساسًا علميًا لتحديد الزيادات العادلة في الإيجارات، وتوجيه برامج الدعم بشكل أكثر كفاءة للفئات المستحقة، ويُمكّن الدولة من رسم سياسات إسكان مستدامة تعالج الاختلالات الحالية في السوق وتُراعي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لمشكلة الإيجارات القديمة والجديدة.

– تنظيم عقود الإيجار الجديدة

لضمان استقرار سوق الإيجارات في المستقبل، من الضروري تنظيم عقود الإيجار الجديدة.

يمكن وضع نماذج استرشادية لعقود الإيجار، وتحديد حد أدنى لمدة العقد (3-5 سنوات)، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية لتسجيل عقود الإيجار.

هذا التنظيم سيحمي حقوق الطرفين، ويمنع التلاعب، ويوفر بيانات دقيقة عن سوق الإيجارات تساعد في صنع السياسات المستقبلية.

 

مبادرات مبتكرة لحل الأزمة

– الشراكة بين الملاك والمستأجرين

هناك حلول مبتكرة قائمة على الشراكة بين الملاك والمستأجرين يمكن تطبيقها في مصر.

يمكن تطوير نموذج للشراكة بين المالك والمستأجر، بحيث يساهم المستأجر في تكاليف تطوير العقار مقابل تخفيض في القيمة الإيجارية أو الحصول على حق الانتفاع لفترة محددة.

هذا النموذج نجح في بعض الدول الأوروبية، وقد يكون مناسباً للعقارات التي تحتاج إلى صيانة وتطوير.

– صكوك الإيجار طويل الأجل

يمكن إصدار صكوك للإيجار طويل الأجل كأداة تمويلية مبتكرة لحل جزء من الأزمة.

يمكن للدولة أو شركات التطوير العقاري إصدار صكوك للإيجار طويل الأجل، بحيث يشتري المستأجر حق الانتفاع بالوحدة السكنية لفترة طويلة 20-30 سنة (بسعر مخفض)

هذه الصكوك ستوفر تمويلاً للإسكان الاجتماعي، وتمنح المستأجرين استقراراً سكنياً طويل الأمد.

 خطة تنفيذية متكاملة

لضمان نجاح تطبيق هذه المقترحات، من الضروري وضع خطة تنفيذية متكاملة تشمل جميع الجوانب التشريعية والتنظيمية والمالية.

يمكن تشكيل لجنة وزارية عليا تضم ممثلين عن وزارات الإسكان والعدل والمالية والتضامن الاجتماعي، بالإضافة إلى خبراء مستقلين وممثلين عن جمعيات الملاك والمستأجرين.

مهمة هذه اللجنة وضع خطة تنفيذية متكاملة، ومتابعة تنفيذها، وتقييم نتائجها بشكل دوري، وإجراء التعديلات اللازمة.

كلمة أخيرة

الحل الأمثل لمشكلة الإيجارات القديمة يتطلب توازناً دقيقاً بين حقوق الملاك والمستأجرين، ونهجاً تدريجياً في التحرير، وآليات فعالة للدعم الاجتماعي.

نحن أمام فرصة تاريخية لإصلاح تشوه استمر لعقود في سوق العقارات المصري. نجاح هذا الإصلاح سيحقق فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة، وهو ما سنتناوله في المقالين القادمين من هذه السلسلة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى