مقالات

شائعة “وفاة ترامب” درس اقتصادي… المعلومة صارت رأس مال والشائعة أداة ضغط

بقلم –  ليما راشد الملا

انتشار شائعة وفاة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن مجرد حدث جانبي في ساحة السياسة أو الإعلام، بل اختبار حيّ لمدى هشاشة الأسواق المالية أمام تناول المعلومة غير الموثوقة. ففي بيئة تتحرك فيها الأسهم والعملات والسندات وفق الأخبار اللحظية، تكفي إشارة مضللة أو غياب غير مألوف ليشعل موجة من المضاربات ويعيد رسم مسارات الاستثمار خلال دقائق معدودة.

 

انعكاسات فورية على الأسواق المالية

الأسواق المالية بطبيعتها تُبنى على الثقة، لكن الشائعات تضرب هذا الأساس مباشرة. انتشار خبر مثل “وفاة ترامب” يرفع تلقائيًا الطلب على الأصول الآمنة مثل الذهب والسندات الأميركية، فيما ترتفع مؤشرات القلق لدى المستثمرين بشأن استمرارية السياسات الاقتصادية. مثل هذه الأجواء تدفع بالدولار إلى التذبذب الحاد أمام العملات الرئيسية، خصوصًا اليورو والين، باعتباره عملة سياسية بقدر ما هو أداة تبادل.

وفي حالات مشابهة تاريخيًا، شهدت الأسواق المالية الأميركية عبر التاريخ هزّات سريعة بسبب أخبار طارئة أو شائعات مرتبطة برؤساء وقادة عالميين. ففي عام 1963، ومع اغتيال الرئيس جون كينيدي، تراجع مؤشر Dow Jones بنحو 3% خلال دقائق قبل أن يُغلق التداول مبكرًا، في مشهد صادم أحدث ذعراً واسعًا. وبعدها بسنوات، في مارس 1981، تعرّض الرئيس رونالد ريغان لمحاولة اغتيال أدت إلى هبوط سريع في الأسواق خوفًا من فراغ سياسي، لكنها سرعان ما تعافت بعد الإعلان عن استقرار حالته. وفي أكتوبر 2020، عندما أُعلن عن إصابة الرئيس دونالد ترامب بفيروس كورونا، تراجعت العقود الآجلة للأسهم الأميركية بما بين 1% و2% نتيجة القلق من ارتباك انتخابي محتمل. ولم يختلف الأمر مع الرئيس جو بايدن، إذ إن مجرد شائعات خلال 2023 و2024 عن تعثره صحياً أو انسحابه من السباق الرئاسي كانت كافية لدفع Dow Jones وS&P 500 إلى تراجع فوري تراوح بين 1% و1.5%.

الخلاصة أن الأسواق شديدة الحساسية تجاه الأخبار المفاجئة المتعلقة بالقادة، حيث يمكن أن تتأثر بهبوط يتراوح بين 1% و3% في جلسة واحدة حتى لو كانت المعلومة مجرد إشاعة غير مؤكدة.

 

المؤسسات الاستثمارية بين الحذر والمخاطرة.

الشائعة لا تربك الأفراد فقط، بل تفرض ضغوطًا على المؤسسات الكبرى. فالمصارف، صناديق التحوّط (Hedge Funds)، وشركات التأمين تتعامل مع أي تطور سياسي كعامل مؤثر في استراتيجياتها الاستثمارية. شائعة بحجم “وفاة ترامب” قد تؤدي إلى ربكة في  القرارات الإستثمارية أو إعادة تقييم المخاطر مؤقتًا، وهو ما يؤدي إلى فجوات في السيولة وفرص غير محسوبة للمهتمين بالتداول في أسواق المال أو لأصحاب الصفقات السريعة. بعض المؤسسات قد تتجه فورًا لإعادة توزيع الأصول، ويؤدي هذا الأمر إلى خلق موجات بيع وشراء مبالغ فيها.

 

الاقتصاد في عصر الخوارزميات

ما يزيد المشهد تعقيدًا أن عصر الرقمنة حوّل المعلومة إلى سلعة تتداولها المنصات أسرع من المؤسسات الرسمية. الخوارزميات التي تدير جزءًا كبيرًا من التداولات الآلية (High Frequency Trading) لا تفرّق بين خبر صحيح وآخر زائف؛ هي تقرأ الكلمات المفتاحية فقط. وعندما تلتقط إشارات مثل “Trump” و”Dead”، يمكن أن تبرمج آلاف الأوامر البيعية أو الشرائية في أجزاء من الثانية، ما يضاعف أثر الشائعة أضعافًا مضاعفة.

 

المحصلة الاقتصادية والتوصيات

شائعة “وفاة ترامب” تؤكد أن الأسواق العالمية باتت أكثر عرضة للعبث الرقمي من أي وقت مضى. فإذا كان الاقتصاد يُبنى على المعلومة، فإن أي خلل في دقتها كفيل بأن يخلق تقلبات وتكون بمثابة بيان رسمي صادر عن بنك مركزي أو حكومة.

ولذلك، من المهم الأخذ في الحسبان مجموعة من التوصيات العملية التالية:

١- تعزيز مراقبة المحتوى الرقمي: تطوير أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد الشائعات الاقتصادية والسياسية قبل أن تتحول إلى موجة مضاربة.

٢-التدخل السريع للبنوك المركزية: إصدار بيانات طمأنة فورية عند انتشار أخبار مؤثرة غير دقيقة وغير مؤكدة، لتقليل أثرها على الأسواق.

٣-زيادة الشفافية الحكومية: توفير منصات رسمية للبث المباشر والتوضيح المستمر يقلل من فراغ المعلومات الذي يسمح بانتشار الشائعات.

٤-إدارة مخاطر المؤسسات المالية: تبني استراتيجيات مرنة تسمح باحتواء أثر الأخبار المفاجئة، مثل خطط التحوط الآني والتوزيع الديناميكي للأصول.

٥-تثقيف المستثمرين: رفع الوعي بخطورة الانجرار وراء الأخبار غير المؤكدة، وتشجيع الاعتماد على المصادر الرسمية قبل اتخاذ قرارات مالية.

في الختام:

إن ما حدث ليس مجرد “ترند سخيف” على منصة اجتماعية، بل درس اقتصادي بالغ الأهمية: المعلومة صارت رأس مال، والشائعة صارت أداة ضغط. والسؤال المطروح الآن: هل الأسواق جاهزة للتعامل مع “الحرب المعلوماتية” القادمة، حيث تغريدة واحدة قد تُعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى