إعادة التفكير في الناتج المحلي الإجمالي: بين التحديثات والنقد الأخلاقي

بقلم: د. محمد جميل الشبشيري
لطالما كان الناتج المحلي الإجمالي (GDP) المرجع الرئيس لتقييم الأداء الاقتصادي للدول، لكنه في جوهره يشبه “بوصلة قد لا تعكس ما يهم فعليًا: رفاهية الناس واستدامة كوكبنا. فبينما يقيس هذا المؤشر القيمة النقدية للإنتاج، فإنه يتجاهل كل ما لا يُقدَّر بسعر السوق. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل حان الوقت لتجاوز هذا المقياس الضيق نحو رؤية أكثر إنسانية وشمولية للتقدم؟
ثغرات الناتج المحلي الإجمالي: الأرقام التي تخفي الواقع
تتمثل المشكلة الأساسية في أن GDP يقيس كل شيء بالمال، دون تمييز بين النشاط المفيد والضار. من أبرز هذه الثغرات:
– إغفال البعد البيئي: لا يأخذ بعين الاعتبار تلوث الهواء أو استنزاف الموارد الطبيعية، بحيث يمكن أن ينمو اقتصاد دولة ما على حساب صحة مواطنيها وبيئتهم.
– تجاهل الاقتصاد غير الرسمي: الأعمال المنزلية غير المدفوعة والعمل التطوعي لا تُحتسب، رغم أهميتها الكبيرة في دعم المجتمعات.
– الخلط بين الضرر والمنفعة: الكوارث الطبيعية والحروب قد تُسجل على أنها عوامل للنمو، لأنها تزيد الإنفاق على إعادة الإعمار والأسلحة، وكأن الدمار يُعتبر وسيلة للرخاء
وبالرغم من تلك الثغرات الا ان الناتج المحلي الإجمالي (GDP) ما زال المؤشر الأكثر شيوعًا لقياس النمو الاقتصادي، رغم الانتقادات المتزايدة التي تشير إلى قصوره في عكس “جودة” النمو وليس كميته فقط.
وفي خطوة لتحديث هذا المؤشر، أجرى صندوق النقد الدولي (IMF) تعديلات تقنية واسعة على نظام الحسابات القومية، لكن الأسئلة الأخلاقية حول مفهوم “النمو” نفسه تظل تبحث عن إجابات.
تحديثات تقنية… ولكن
في العام الحالي 2025 أعلن صندوق النقد الدولي عن مراجعة شاملة لنظام الحسابات القومية (SNA)، شملت لأول مرة إدراج الاقتصاد الرقمي، مثل المنصات الإلكترونية واقتصاد المحتوى، ضمن الناتج المحلي. كما أُضيفت الأصول غير الملموسة مثل البرمجيات والملكية الفكرية، إضافة إلى الأصول المشفرة كـ”بيتكوين”. تهدف هذه التعديلات إلى تمكين الحكومات من تتبع التحولات الاقتصادية الحديثة، خاصة مع تزايد دور التكنولوجيا في الناتج المحلي.
لكن التحديثات التقنية لم تُغير جوهر المشكلة: فالناتج المحلي لايزال لا يُحصي العمل غير المدفوع الأجر (مثل رعاية الأطفال أو العمل المنزلي)، ويُظهر الصناعات الملوثة أو إنتاج الأسلحة كإسهامات “إيجابية” للنمو، دون خصم التكاليف البيئية أو الاجتماعية.
أرقام GDP لا تكفي
النتائج التي خلص إليها الاقتصادي سيمون كوزنتس (مبتكر حساب GDP) نفسه كانت صادمة: فبينما تظهر الأرقام الرسمية نموًا اقتصاديًا، قد يكون المجتمع في الواقع يعاني من تآكل في الرفاهية. دراسات لاحقة، مثل تلك التي أجراها ويليام نوردهاوس حول التكاليف المناخية، أو مارلين وارينغ حول إهمال العمل غير المدفوع، أكدت أن GDP لا يعكس الصورة الكاملة.
على سبيل المثال:
– دولة تُلوي بيئتها لتحقيق نمو GDP مرتفع، قد تخفي تكاليف بيئية تُهدد مستقبلها.
– مجتمع يعتمد على استخراج الموارد الطبيعية دون استدامتها، قد يبدو “قويًا” على الورق، لكنه يُعاني من استنزاف ثرواته.
الاقتصاد والأخلاق: ما هو “النمو الجيد”؟
الخطوات التقنية وحدها لا تُغير المعادلة. فالنقاش اليوم يتخطى تعديل المعادلات الحسابية، إلى إعادة تعريف معنى “النمو”. يشير علم النفس الأخلاقي والاقتصاد السلوكي إلى أن السياسات الاقتصادية ليست محايدة أخلاقيًا: فهي تُعزز قيمًا مثل الثقة الاجتماعية أو العدالة، أو تُضعفها.
فمثلًا:
– سياسات تُهمل الرعاية الصحية أو التعليم، قد تُنتج نموًا GDP مرتفعًا لكنها تُعمق عدم المساواة.
– استثمار في البنية التحتية الخضراء قد يُقلل من GDP على المدى القصير، لكنه يُعزز الاستدامة.
نحو مقاييس أكثر “إنسانية”
بدأت دول ومؤسسات في تبني مؤشرات بديلة:
– مؤشر التنمية البشرية (HDI: يدمج التعليم والصحة والدخل.
– المؤشرات الخضراء: تُقيِّم التوازن بين النمو وحماية البيئة.
– حسابات الرعاية: تُقدِّر قيمة العمل غير المدفوع (مثل دراسة حديثة في النيبال أظهرت أن العمل المنزلي يُساوي 20% من GDP).
الهدف ليس “إلغاء” GDP، بل استخدام هذه المؤشرات جنبًا إلى جنب، لقياس ما يُهم المجتمع فعلًا: الرفاهية، العدالة، والاستدامة.
خاتمة: النمو الذي يُنير
في عالم تتدهور فيه التربة، وتتعمق عدم المساواة، وتتعرض فيه القيم الاجتماعية للتهديد، لم يعد كافيًا أن تقتصر سياساتنا على الأرقام. تحديثات صندوق النقد الدولي خطوة تقنية مهمة، لكنها تظل ناقصة دون إعادة التفكير في معنى “النمو” نفسه. فالنمو الحقيقي هو الذي يُعزز الحياة الكريمة، وليس الذي يُختصر في أرقام على الورق.