“عدم وجود أثر مالي”: ثغرة خفية في الإفصاح والشفافية

في بيئة استثمارية تتسم بالتعقيد والتشابك بين الكيانات والشركات التابعة والزميلة، يبرز الإفصاح والشفافية كأحد الركائز الأساسية لضمان عدالة الأسواق وثقة المستثمرين. وقد أولت الجهات التشريعية هذا الجانب اهتمامًا بالغًا من خلال تشريعات واضحة، تُلزم الشركات المدرجة بالإفصاح الفوري والدقيق عن أي معلومة جوهرية من شأنها أن تؤثر على سعر السهم أو على قرارات المستثمرين.
ومع ذلك، فإن التطبيق العملي لهذا الالتزام يكشف عن ثغرة جوهرية متكررة في مشهد الإفصاحات اليومية، تتمثل في إشكالية تحديد “الأثر المالي” للمعلومة الجوهرية. فكثيرًا ما تُدرج الشركات في نماذج الإفصاح عبارات من قبيل: “لا يوجد أثر مالي مباشر” أو “الأثر المالي غير جوهري”
حتى في الحالات التي يبدو فيها أن للحدث المُفصح عنه انعكاسًا واضحًا على المركز المالي، أو التدفقات النقدية أو الالتزامات المستقبلية للشركة أو شركاتها التابعة.
جوهر الإشكالية: غموض أم تجنب؟
عند دراسة عدد من الإفصاحات المنشورة على من الشركات، نلاحظ أن هذه العبارات تتكرر خصوصًا عند إعلان الشركات عن:
* حصول شركة تابعة على تمويل أو تسهيلات مصرفية جديدة.
* توقيع اتفاقيات مبدئية أو عقود طويلة الأجل.
* إتمام عمليات بيع أو شراء أصول داخل المجموعة.
ورغم أن الشركة الأم غالبًا ما تكون ملتزمة أو ضامنة أو مستفيدة من هذه العمليات بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن الإفصاح يكتفي بتصريح عام يفيد بعدم وجود أثر مالي.
وهنا تبرز الإشكالية الفنية والقانونية: هل يعقل أن عملية تمويل أو صفقة تجارية داخل المجموعة لا تؤثر مطلقًا على القوائم المالية المجمّعة للشركة المدرجة؟ أم أن المسألة تتعلق بغياب التحليل المالي الدقيق أو الخوف من تحميل الإفصاح أكثر مما يحتمل؟
الأثر على مفهوم الإفصاح عن المعلومات الجوهرية
إن تجاهل أو غموض تحديد الأثر المالي يُخلّ بمفهوم الإفصاح كما حدده المشرّع ، إذ أن المعلومة الجوهرية وفق أحكام كتاب الإفصاح والشفافية من اللائحة التنفيذية لقانون هيئة أسواق المال تلك التي “يُتوقع أن يكون من شأنها التأثير على سعر الورقة المالية أو على قرار المستثمر”.
وعليه، فإن غياب تقدير الأثر المالي – سواء أكان إيجابيًا أم سلبيًا – يجعل الإفصاح ناقصًا وغير متكامل، ويفتح الباب أمام التقديرات الشخصية للمستثمرين وربما التضليل غير المقصود.
كما أن تكرار مثل هذه الإفصاحات يُضعف من مستوى الثقة في مصداقية البيانات المنشورة، ويعكس قصورًا في نظم الرقابة الداخلية والمحاسبية لدى بعض الشركات في تتبع الأثر المالي للعمليات الجوهرية.
التمويل عبر الشركات التابعة: نموذج عملي
لنأخذ مثالًا شائعًا في الإفصاحات اليومية: شركة مدرجة تفصح عن أن إحدى شركاتها التابعة قد حصلت على تمويل مصرفي بمبلغ كبير من إحدى الجهات التمويلية، وتضيف العبارة التالية: “لا يوجد أثر مالي على الشركة المدرجة.” في الظاهر، يبدو هذا الإفصاح كافيًا، لكن عند التحليل، قد يتبين أن الشركة الأم:
* تملك حصة الأغلبية في الشركة التابعة.
* تقوم بتوحيد بياناتها المالية في القوائم المجمّعة.
* وربما تكون قدمت ضمانًا أو كفالة لتلك التسهيلات.
وفي هذه الحالة، فإن التمويل سيكون له أثر مالي مباشر أو غير مباشر على المركز المالي المجمّع، سواء من حيث زيادة الالتزامات أو تغير التدفقات النقدية، ما يعني أن الإفصاح عن “عدم وجود أثر مالي” غير دقيق.
تعزيز جودة الإفصاح المالي
لتجاوز هذه الإشكالية، يمكن اقتراح عدد من الإجراءات العملية:
1- تحديد معيار موحّد لتقييم الأثر المالي: على الرغم من ورش العمل التي قدمتها الهيئة للشركات خلال فترة إطلاق اللائحة التنفيذية يمكن أن تضع هيئة أسواق المال كجهة تنظيمية دليلًا استرشاديًا يوضح كيفية تقدير الأثر المالي في الإفصاحات الجوهرية، متضمنًا أمثلة تطبيقية.
2- تعزيز دور مدققي الحسابات والمستشارين الماليين :يجب أن يشارك المستشار المالي أو المدقق الخارجي في مراجعة صياغة الإفصاحات المتعلقة بالأثر المالي للأحداث الجوهرية.
3- ربط الإفصاح بمبدأ المساءلة : أي إفصاح غير دقيق أو مضلل يجب أن يترتب عليه مسؤولية إدارية على الشركة ومجلس إدارتها، وفقًا لأحكام القانون رقم 7 لسنة 2010.
4- رفع الوعي لدى مسؤولي الإفصاح والمطابقة والالتزام : من خلال برامج تدريبية متخصصة حول كيفية تحليل وتقدير الأثر المالي في مختلف أنواع العمليات.
إن الالتزام بالإفصاح ليس مجرد إجراء شكلي أو التزام قانوني، بل هو تعبير عن ثقافة الحوكمة داخل الشركة ، وكلما كانت الشركة أكثر دقة وشفافية في تحديد الأثر المالي لمعاملاتها، كلما ارتفعت ثقة المستثمرين بها، وازدادت كفاءة سوق المال ككل.
أما الاكتفاء بعبارات عامة من نوع “لا يوجد أثر مالي”، فهو أقرب إلى الغموض المريح منه إلى الشفافية المطلوبة، ويستدعي وقفة جادة من الجهات الرقابية والشركات على حد سواء.