
يا ترى، هل فكرت يومًا كيف نعرف مدى حيوية أي اقتصاد؟ الأمر لا يقتصر على أسعار النفط أو حركة الأسواق المالية فقط، بل يمتد ليشمل شيئًا أساسيًا يلامس حياة كل إنسان: البيت. نعم، قطاع الإسكان هو قلب نابض في جسد أي دولة، فهو لا يوفر لنا سقفًا يحمينا فحسب، بل يحرك عجلة الاقتصاد ويخلق فرص عمل ويشكل مستقبل الأجيال.
عالميًا، هناك مؤشر سحري يُسمى “بدايات الإسكان” (Housing Starts). تخيل معي أن هذا المؤشر أشبه بعداد يبدأ بالعد كلما بدأ بناء بيت جديد من الصفر، من أول حفرة في الأرض. هذا العداد ليس مجرد رقم، بل هو مرآة تعكس ثقة الناس في المستقبل، وتفاؤلهم بالنمو الاقتصادي. فكلما زادت هذه “البدايات”، عرفنا أن هناك حراكًا، وأن الاقتصاد يتنفس بقوة، وأن فرص العمل تتزايد، وأن المصانع تعمل بجد لتوفير مواد البناء.
ولكن في كويتنا الحبيبة، الصورة مختلفة قليلًا. فليس لدينا هذا العداد الرسمي لـ”بدايات الإسكان” بالصيغة العالمية الدقيقة. لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نرسم لوحة واضحة لواقع الإسكان لدينا. بل على العكس، يمكننا أن نجمع قطع الأحجية من الأرقام المتاحة، والمشاريع العملاقة التي تلوح في الأفق، وآليات الدعم الحكومي الفريدة، لنفهم أين نقف اليوم، وإلى أين نحن ذاهبون.
دعونا نبدأ رحلتنا في فهم هذا العالم المعقد، ولكن المليء بالأمل والطموح.
1- ما هو “معدل بدايات الإسكان” ولماذا يهمنا؟
تخيل أنك مهندس معماري أو اقتصادي، وتريد أن تعرف مدى نشاط قطاع البناء في بلد ما. هل تنتظر حتى ترى المباني وقد اكتملت ورفع عليها العلم؟ أم أنك تفضل أن تعرف متى بدأت هذه المباني بالظهور على أرض الواقع، حتى قبل أن ترى جدرانها ترتفع؟ هذا هو بالضبط جوهر “معدل بدايات الإسكان”.
ببساطة شديدة: هو مؤشر اقتصادي يقيس عدد الوحدات السكنية الجديدة التي بدأ إنشاؤها فعليًا خلال فترة زمنية محددة، غالبًا ما تكون شهرية أو ربع سنوية. اللحظة الحاسمة التي تُسجل فيها “البداية” هي عادةً عند الشروع في حفر أساسات المشروع. يشمل هذا المؤشر جميع أنواع الوحدات، من المنازل المستقلة التي نحلم بها، إلى الشقق العصرية في المباني الشاهقة.
ولماذا هو مهم لنا جميعًا؟ لأنه يُعتبر “مقياسًا رائدًا” (Leading Indicator) للاقتصاد. هذا يعني أنه يعطينا إشارة مبكرة جدًا لما قد يحدث في المستقبل القريب والبعيد. عندما يرتفع عدد بدايات الإسكان، فهذا غالبًا ما يهمس لنا بأن:
* هناك تفاؤل اقتصادي كبير: المطورون والمستثمرون لديهم ثقة عميقة بأن هناك طلبًا كافيًا على العقارات المستقبلية، وأن الناس سيتمكنون من شرائها.
* فرص العمل تتزايد: زيادة البناء تعني الحاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة الماهرة وغير الماهرة في قطاعات البناء، والمواد الخام، والخدمات اللوجستية، وحتى في المقاهي والمطاعم المحيطة بمواقع العمل.
* الصناعات المرتبطة تزدهر: يزداد الطلب على كل شيء، من الأسمنت والحديد والأخشاب، إلى الأجهزة المنزلية والأثاث ومواد التشطيبات. إنها دورة اقتصادية متكاملة.
على العكس، إذا انخفض هذا المعدل، فقد يكون ذلك إشارة إلى تباطؤ اقتصادي محتمل أو تراجع في ثقة السوق، مما يستدعي الانتباه. لهذا السبب، يراقبه الاقتصاديون وصناع القرار في الدول المتقدمة عن كثب، لأنه يخبرهم الكثير عن صحة الاقتصاد قبل أن تظهر المؤشرات الأخرى.
2- الكويت في الصورة: مؤشرات بديلة وأرقام تحمل الأمل
في كويتنا، كما ذكرنا، لا يوجد مؤشر رسمي لـ”بدايات الإسكان” بالصيغة المتعارف عليها دوليًا. لكن هذا لا يمنعنا من قراءة المشهد من خلال مؤشرات أخرى تعطينا لمحة عن نبض القطاع السكني، وإن كانت هذه المؤشرات تأتينا بعد حدوث الفعل، وليست استباقية:
* الوحدات السكنية المضافة: تخيل أننا نعد البيوت الجديدة التي اكتمل بناؤها كل عام. في عام 2023، شهدت الكويت إضافة حوالي 13,000 وحدة سكنية جديدة. هذا الرقم يعكس حجم الإنجاز السنوي ويُعد مؤشرًا على النشاط المستمر في القطاع، وكأنها قطرات مطر تسقي أرضًا عطشى.
* المشاريع الحكومية العملاقة: هذه المشاريع هي بمثابة شرايين الحياة التي تضخ الأمل في قلوب آلاف الأسر. هي المحرك الأساسي للعرض السكني في الكويت، وتعكس التزام الدولة بتلبية الطلب المتزايد. دعونا نلقي نظرة على أبرز هذه المشاريع وأرقامها التقديرية، التي تُعد مدنًا صغيرة بحد ذاتها:
– مدينة المطلاع: مشروع ضخم يوفر حوالي 28,288 قسيمة سكنية، ومصمم لاستيعاب نحو 400,000 نسمة. تخيل حجم مدينة بهذا الحجم! إنها حلم يتحقق للكثيرين.
– جنوب عبدالله المبارك: يضم 3,260 قسيمة. كل قسيمة هي حكاية أسرة تنتظر بناء مستقبلها.
– جنوب صباح الأحمد: مخطط لها أن تضم حوالي 25,000 وحدة سكنية. هذا الرقم وحده يبعث على التفاؤل.
– جنوب سعد العبدالله: من المتوقع أن توفر 22,167 وحدة سكنية. كل هذه المشاريع هي وعود بمستقبل أفضل.
* نمو سوق البناء:
يمثل القطاع السكني حوالي 35% من إجمالي سوق البناء في الكويت لعام 2024. وتُشير التوقعات إلى نمو سنوي مركب (CAGR) لهذا القطاع يصل إلى 6.5%. هذا النمو ليس مجرد رقم، بل هو نتيجة طبيعية للطلب المتزايد من مواطنينا الكرام، ولبرامج الدعم الحكومي التي تسعى لتخفيف الأعباء عنهم.
* حجم الطلبات السكنية:
هنا تكمن القصة الحقيقية التي تلامس قلوب الكثيرين. حتى نهاية عام 2023، بلغ إجمالي عدد الطلبات الإسكانية القائمة لدى المؤسسة العامة للرعاية السكنية حوالي 90,500 طلب. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو عدد الأسر التي تنتظر بفارغ الصبر الحصول على بيت العمر. إنه يؤكد حجم الفجوة بين العرض والطلب، ويبرز الحاجة الملحة لتسريع وتيرة الإنجاز، لأن كل يوم يمر هو يوم من الانتظار لأسر تستحق الاستقرار.
3- مقارنة دولية وإقليمية: أين تقف الكويت في سباق الإسكان العالمي؟
لفهم موقع كويتنا في هذا المشهد العالمي والإقليمي المعقد، من المهم أن ننظر إلى كيفية تتبع الدول الأخرى لنشاطها الإسكاني. الأمر أشبه بسباق عالمي، وكل دولة لديها طريقتها في قياس سرعتها.
أ. الدول المتقدمة: دقة المؤشرات الاستباقية كبوصلة
تعتمد الاقتصادات الكبرى على مؤشر “بدايات الإسكان” كأداة رئيسية للتنبؤ بالنمو الاقتصادي، وكأنها بوصلة توجه قراراتهم. إليك بعض الأمثلة لأحدث الأرقام (معدلات سنوية معدلة موسميًا)، التي تُظهر حجم النشاط والدقة في المتابعة:
* الولايات المتحدة الأمريكية: في يونيو 2025، بلغ معدل بدايات الإسكان 1.321 مليون وحدة [1]. هذا الرقم يُراقب عن كثب، ليس فقط من قبل الاقتصاديين، بل من قبل كل من يهتم بصحة سوق العمل وثقة المستهلك الأمريكي. إنه يعكس نبض الحياة في المدن والضواحي.
* كندا: في يوليو 2025، ارتفع معدل بدايات الإسكان إلى 294,085 وحدة [2]. تُظهر كندا نشاطًا قويًا ومستمرًا في البناء، خاصة في الوحدات متعددة الأسر، لتلبية احتياجات النمو السكاني السريع.
* المملكة المتحدة: في الربع الأول من عام 2025، انخفضت بدايات الإسكان إلى 28,180 وحدة [3]. هذا الانخفاض يعكس بعض التحديات التي يواجهها سوق العقارات البريطاني، ويُعد إشارة لصناع القرار للتدخل.
الخلاصة: هذه الدول توفر بيانات شهرية أو ربع سنوية دقيقة ومفصلة، مما يتيح تحليلًا فوريًا لتوجهات السوق وتأثيرها على الاقتصاد الكلي. إنها تملك عدادًا دقيقًا يخبرهم بالسرعة التي يتقدمون بها في سباق الإسكان.
ب. دول الخليج: التركيز على الإنجازات والخطط الطموحة
في منطقتنا الخليجية، لا يوجد مؤشر موحد لـ”بدايات الإسكان” كما هو الحال في الغرب. بدلًا من ذلك، تركز التقارير على الإنجازات التي تحققت، أو قيمة المشاريع التي تم توقيع عقودها، أو الخطط المستقبلية الطموحة التي تعكس رؤى طويلة الأمد:
* المملكة العربية السعودية: تُركز المملكة على مشاريعها الضخمة التي تُعد جزءًا لا يتجزأ من رؤية 2030 الطموحة. ففي عام 2023، أعلنت وزارة الإسكان عن تسليم 85,000 وحدة سكنية في الرياض، مع 120,000 وحدة أخرى قيد التطوير [4]. كما أن قيمة عقود البناء السكنية الجديدة بلغت حوالي 11.7 مليار دولار في عام 2023 [5]. إنها أرقام تعكس حجم استثمار هائل في البنية التحتية السكنية.
* الإمارات العربية المتحدة (دبي وأبوظبي): تشهد الإمارات نشاطًا عقاريًا كبيرًا، وكأنها ورشة عمل لا تتوقف. في دبي، تم تسليم ما يقارب 36,000 وحدة سكنية في عام 2023 [6]. وتُظهر التقارير أن القطاع السكني في الإمارات يمثل حوالي 21% من المشاريع الإنشائية المخطط لها بقيمة 125 مليار دولار [7]. إنها أرقام تُبهر العالم وتُظهر ديناميكية السوق.
* قطر: من المتوقع إضافة 21 مشروعًا سكنيًا جديدًا في قطر خلال عام 2024، يقع أكثر من 60% منها في مدينة لوسيل [8]. هذه المشاريع تعكس النمو السكاني والتوسع العمراني في الدولة.
الخلاصة: دول الخليج تُظهر أرقامًا ضخمة في حجم الاستثمار والتسليم، مدفوعة غالبًا بمشاريع حكومية كبرى أو استثمارات خاصة ضخمة. لكن هذه الأرقام تعكس الإنجازات بعد حدوثها، وليست مؤشرات استباقية للنشاط المستقبلي. إنها تخبرنا بما تم إنجازه، وليس بالسرعة التي يتم بها البدء في الإنجازات القادمة.
ج. الكويت في سياق المقارنة: الحاجة إلى بوصلة أدق
تُظهر المقارنة أن الكويت تقع في المنتصف بين النمو الذي تقوده المشاريع الحكومية الضخمة في الخليج، وبين الحاجة الماسة إلى مؤشرات أكثر دقة وشفافية على غرار الدول المتقدمة. فبينما تُعلن الكويت عن خطط لمشاريع سكنية ضخمة (مثل المطلاع)، فإن غياب مؤشر “بدايات الإسكان” يجعل من الصعب تتبع وتيرة العمل بشكل فوري ومقارنتها بالأسواق العالمية التي تعتمد على بيانات لحظية. إنها كمن يقود سيارة قوية، ولكن بدون عداد سرعة دقيق.
ماذا يعني هذا؟ إن وجود مؤشر شهري لـ “بدايات الإسكان” في الكويت لن يكون مجرد رقم يُضاف إلى التقارير، بل سيكون أداة استراتيجية تمكّن من قياس صحة السوق بدقة متناهية، وتوقع التحديات قبل أن تتفاقم، وتوجيه الاستثمارات بشكل أكثر كفاءة، وتعزيز الشفافية التي تُعد عامل جذب رئيسي للمطورين العقاريين الدوليين. إنه سيمنحنا بوصلة أدق لرحلتنا نحو مستقبل إسكاني مزدهر.