هل يعيد التضخم الجامح تشكيل خريطة المخاطر الجيوسياسية على استثماراتنا !!
" سيناريوهات الورقة الأخيرة "
بقلم : عمرو علاء
مسؤول مطابقة والتزام
هل ما نراه اليوم هو مجرد تقلب اقتصادي عابر، أم أنه تحول زلزالي في قواعد اللعبة الجيوسياسية؟ هذا هو السؤال الذي يطارد مجالس الإدارة وصناديق الاستثمار السيادية حول العالم، وفي قلب منطقتنا العربية التي تقف على مفترق طرق الطاقة والمال.
التضخم الجامح الذي تجاوز مجرد كونه ظاهرة نقدية، تحول إلى عامل ضغط سياسي من الدرجة الأولى، مُهدداً بتحريك “الورقة الأخيرة” من أوراق التوتر الدولي، وتغيير وجه استثماراتنا التي بنيناها بعرق وسنين.
التضخم : ليس مجرد “ضريبة صامتة” بل قنبلة سياسية موقوتة
لم يعد التضخم ظاهرة نخبوية يتم علاجها فقط عبر رفع أسعار الفائدة، لقد أصبح “الضريبة الصامتة” التي تلتهم مدخرات الشعوب وتقوض الاستقرار الاجتماعي، اليوم باتت الزيادة في سعر جالون الوقود أو كيس الدقيق قادرة على إحداث احتجاجات عارمة تهدد أنظمة حكم مستقرة.
عندما تتجاوز الأزمة الاقتصادية الحدود المألوفة، تتحول إلى أداة ضغط في يد القوى الكبرى، أزمة الطاقة على سبيل المثال لم تعد مسألة عرض وطلب فحسب، بل هي ورقة ضغط جيو-اقتصادية تستخدم لتشكيل التحالفات، مما يضع استثماراتنا في هذا القطاع الحيوي تحت تقلبات غير محسوبة.
من “سلة الغذاء” إلى “خريطة النفوذ”: كيف يغير ارتفاع الأسعار التحالفات؟
إن الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الأساسية والطاقة هو المحرك السري لتغيير خريطة النفوذ العالمية، فالدول التي تعتمد على استيراد الغذاء والوقود تجد نفسها مرغمة على إعادة النظر في تحالفاتها للحصول على ضمانات الإمداد، حتى لو كان الثمن هو التنازل عن مواقف سياسية.
هذه البيئة الهشة تترجم مباشرة إلى “مخاطر جيوسياسية” على أي استثمار عابر للحدود، فالتضخم يُشعل فتيل النزاعات الحدودية، ويغذي سياسات “الجوار أولاً” مما يعني أن أي استثمار ضخم في أي دولة قد يجد نفسه فجأة رهينة لقرار سيادي حمائي أو عقوبات دولية مفاجئة.
سلاسل الإمداد: بين مطرقة “التكلفة” وسندان “الأمن القومي“
لقد ولى زمن “العولمة الرخيصة” إلى غير رجعة، تحت ضغط التضخم وتكاليف الشحن المرتفعة من جهة، ومخاوف الأمن القومي من جهة أخرى، بدأت سلاسل الإمداد العالمية بالانكماش نحو التوطين والإنتاج القريب (Nearshoring).
هذا التحول القسري يمثل مخاطرة كبرى لاستثماراتنا في اللوجستيات والمصانع الخارجية، الشركات التي لا تعيد هيكلة مصادر إنتاجها وتقوم بتأمين احتياطياتها محلياً أو إقليمياً، ستجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر إما خسارة التنافسية بسبب التكاليف، أو الوقوع في فخ المقاطعة والعقوبات.
هروب “الأموال الساخنة”: الأسواق الناشئة في مرمى نيران التوتر الجيوسياسي
في بيئة التضخم المرتفع ورفع أسعار الفائدة، تتجه رؤوس الأموال بحثاً عن الأمان، تاركةً الأسواق الناشئة في مرمى نيران التوتر الجيوسياسي، إن هذه الأسواق تجد نفسها بين سندان رفع الفائدة العالمي الذي يجذب السيولة للخارج، ومطرقة التوترات السياسية التي تجعل الاستثمار فيها محفوفاً بالمخاطر المضاعفة، على المستثمر إعادة تقييم تعرضه لهذه الأسواق وفقاً لأسس جديدة تتجاوز معايير النمو التقليدية.
حوكمة المخاطر: الدرع الحصين للاقتصادات المعتمدة على الطاقة
في سياقنا العربي حيث تظل أسعار الطاقة هي العصب الحساس للموازنات والمشاريع، فإن إدارة المخاطر الجيوسياسية والتضخمية تتطلب أداءً استثنائياً في الحوكمة الاقتصادية، لا يكفي أن تكون الدولة غنية، بل يجب أن تكون حصينة.
الحوكمة الرشيدة هنا تعني وضع ميزانيات تقديرية متحفظة للنفط، وتوظيف الفوائض في مشاريع لا تتأثر بالدورات الاقتصادية قصيرة الأجل، بل تخدم التنوع طويل الأجل. كما تتطلب حوكمة للمخاطر المالية تضمن أن تكون السياسات النقدية والمصرفية المحلية قادرة على امتصاص صدمات التضخم المستورد، وحماية العملة من ضغوط التوتر الدولي، إن قوة الحوكمة هي التي تحول الثروة النفطية من “نقمة جيوسياسية” إلى “درع اقتصادي”.
مأزق الدولار الأمريكي: هل يفقد هيمنته كمرساة للمخاطر؟
لأكثر من سبعة عقود كان الدولار الأمريكي هو الملاذ الآمن والورقة الأخيرة التي يلجأ إليها المستثمرون عند تفاقم المخاطر الجيوسياسية، لكن التضخم الجامح الحالي إضافة إلى استخدام الدولار كسلاح في العقوبات الدولية، أثار شكوكاً عميقة حول استدامة هذه الهيمنة.
باتت الكثير من الدول تبحث عن تسوية التبادلات التجارية بعملاتها المحلية أو باليوان، في محاولة لتقليل التعرض لمخاطر “التسليح المالي” هذا التصدع في مرساة الدولار يمثل مخاطرة هيكلية جديدة، يجب على مستثمري المنطقة التعامل بحذر مع أي سيناريو لـ “تعدد الأقطاب النقدية”، وضمان تنويع أصولهم الدولية بعيداً عن السلة النقدية التقليدية.
استراتيجية البقاء: تحصين المحافظ الاستثمارية بالعودة إلى “الأصول الصلبة“
في مواجهة هذا المشهد المزدوج من التضخم المرتفع والتوتر الجيوسياسي، تتضاءل جاذبية الأصول الورقية ويفقد المال قيمته الحقيقية، الخيار الاستراتيجي الوحيد للمستثمر الحكيم هو تحصين محفظته باللجوء إلى الأصول التي تحتفظ بقيمتها الذاتية والمعروفة بـ “الأصول الصلبة”.
سواء كان ذلك عبر زيادة حصة الاستثمار في الذهب والمعادن الثمينة، أو التوجه نحو العقارات المدرة للدخل في أسواق مستقرة، أو الاستثمار المباشر في السلع الأساسية (الطاقة والزراعة)، فإن الهدف هو ربط رأس المال بقيمة حقيقية غير قابلة للتآكل بفعل التضخم أو التأثر بشكل مباشر بالخلافات السياسية العابرة.
لقد كانت منطقتنا الخليجية بفضل الرؤى القيادية الحكيمة، محظوظة بامتلاك “مصدات صدمات” مالية ضخمة، لكن هذا ليس ضماناً للبقاء، التحدي اليوم ليس في جني الأرباح، بل في الحفاظ على “القيمة الحقيقية” للأصول، إننا أمام سباق بين سرعة التضخم وقوة قرارنا الاستثماري.
الأوان لم يفت بعد لإعادة قراءة الخريطة الاستثمارية الجديدة التي يرسمها التضخم، والتحرك بمرونة نحو قطاعات الحماية والتحوط، من يظن أن المخاطر الجيوسياسية بعيدة عن محفظته فهو يعيش وهماً لن يطول، الاستثمار اليوم هو فعل دفاعي قبل أن يكون هجومي.
“الأمن الاستثماري ليس رفاهية.. بل ضرورة للبقاء”




