“الربح السام”: حينما نأكل “رأس المال” ونسميه “ربحاً”!
بقلم: سيد ترهوني – مدير إدارة مخاطر
(CMA, PMI-RMP)
في عالم المال، هناك فرق شاسع بين “الربح الحقيقي” و”الربح السام”؛ فالأول يبني إمبراطوريات، والثاني يهدمها من الداخل. وسط هذا المشهد المتسارع، تقع بعض الإدارات في فخ “هوس النتائج الفورية”؛ فتضغط لتحقيق أرقام ربحية مبهرة في الربع الحالي، متجاهلة أن ثمن هذا الربح السريع هو “استنزاف” لمقدرات الشركة المستقبلية.
بصفتي متخصصاً في إدارة المخاطر، أرى أن الخطر الحقيقي ليس في “تراجع الأرباح” لعام واحد، بل في “حرق الأصول” من أجل الحفاظ على مظهر الربحية. إنها السياسة التي أسميها : بـ “انتحار الربع السنوي” وهي سياسة أكل البذور بدلاً من زراعتها.
وهم “الكفاءة التشغيلية” المزعومة
قد يقرر مدير تنفيذي تأجيل صيانة دورية للمعدات، أو يوقف برامج تدريب الموظفين، أو يقلص ميزانية التسويق الاستراتيجي. على الورق، تبدو هذه قرارات حكيمة: المصاريف تنخفض، و”صافي الربح” يرتفع في نهاية العام، ويصفق الجميع لهذا “الإنجاز”.
لكن من منظور إدارة المخاطر، هذا ليس ربحاً، بل هو ‘دين مؤجل’ بفوائد مركبة. فالآلات ستتعطل عاجلاً أم آجلاً بتكلفة إصلاح تفوق تكلفة صيانتها بـ 3 إلى 5 أضعاف، والكفاءات ستبحث عن فرص أفضل لدى المنافسين، والعلامة التجارية ستفقد بريقها تدريجياً.
انظروا إلى عملاق التجزئة الأمريكي “سيرز” (Sears) لعقود، كانت الشركة تضغط على نفقاتها التشغيلية، وتؤجل تحديث متاجرها، وتقلص تدريب موظفيها لتحقيق أرباح فصلية ترضي المساهمين. النتيجة؟ أرباح قصيرة المدى، وإفلاس طويل المدى في 2018، بينما كان منافسوها الذين استثمروا في المستقبل مثل Amazon) و (Walmart يسيطرون على السوق.
نحن هنا لنحذر: “لا تخلطوا بين ترشيد الإنفاق وبين تجفيف المنابع”.
استنزاف “العميل” بدلاً من خدمته
أخطر أنواع “الربح السام” هو ذلك الذي يأتي من الضغط على العميل أو المورد. رفع الأسعار دون إضافة قيمة، أو تقليل جودة الخدمة، أو تأخير مستحقات الموردين لتحسين التدفق النقدي، كلها حيل تحقق مكاسب لحظية. لكن هذه المكاسب تأتي من السحب من رصيد ‘بنك الولاء’. عندما ينفد هذا الرصيد، يغادر العميل بلا رجعة. تشير الدراسات إلى أن تكلفة اكتساب عميل جديد تبلغ 5 إلى 7 أضعاف تكلفة الحفاظ على عميل حالي.
إدارة المخاطر الاستراتيجية تدرك جيداً أن “القيمة الدائمة للعميل” أهم مليون مرة من “ربح صفقة واحدة”. دورنا هو حماية هذه العلاقة طويلة الأمد من مخاطر النظرة القصيرة.
ضرورة الاستثمار في “المجهول”
الشركات التي تركز فقط على استنزاف منتجاتها الحالية الناجحة وتتوقف عن الإنفاق على البحث والتطوير أو استكشاف أسواق جديدة، هي شركات تكتب شهادة وفاتها ببطء. إنها كالمزارع الذي ينهك أرضه عاماً تلو الآخر دون أن يسمدها.
قد يبدو الإنفاق على التطوير “مخاطرة” لأن عائده غير مضمون فوراً، لكن الحقيقة المالية تقول: “من لا يتقدم اليوم، يتقادم غداً”.
يجب على كل شركة أن تمتلك “محفظة مخاطر” متوازنة؛ جزء منها يحمي الحاضر، وجزء آخر يغامر من أجل بناء المستقبل.
ختاماً: لا تبيعوا المستقبل من أجل الحاضر
قبل أن تحتفلوا بأرقام الأرباح القادمة، اسألوا أنفسكم: هل جاء هذا الربح من نمو حقيقي، أم من تأجيل استثمارات ضرورية؟ هل عملاؤنا أكثر ولاءً اليوم، أم أننا نحرق رصيدنا معهم؟ هل نحن نستثمر في مستقبلنا، أم نأكل منه؟
رسالتي لكل صانع قرار ومساهم: لا تنخدعوا باللون الأخضر في البيانات المالية إذا كان ثمنه تآكل أصول الشركة وسمعتها. الإدارة الحكيمة هي التي تملك الشجاعة لتقول:
“سأضحي بربح قليل اليوم، لأبني إمبراطورية راسخة غداً”.
تذكروا دائماً: “يمكن لأي شخص أن يقطف الزهرة ويبيعها، لكن العبقرية تكمن فيمن يروي الجذور لتزهر كل عام”.



