مقالات

أضرار ومخاطر غسل الأموال

انتهينا في المقال السابق من مراحل غسل الأموال، وفي هذا المقال سنتحدث عن أضرار غسل الأموال على كل الأصعدة.
شعرت الدول والمجتمعات المعاصرة بالمساوئ والأضرار المادية الجسيمة التي نشأت عن عمليات غسل الأموال القذرة، إذ لم يعد الضرر قاصراً على الناحية الاقتصادية فحسب، بل تعداه إلى النواحي الأخرى، كالسياسية والاجتماعية ونحوها، ولهذا سوف أحاول إبراز تلك الأضرار وذلك بشيء من التفصيل والتأصيل.


• أضرار غسل الأموال القذرة من الناحية الاقتصادية

من المسلم به أن لجريمة غسل الأموال أضراراً اقتصادية متعددة فهي تؤثر على دخل الدول وإيراداتها، وعلى توزيع هذا الدخل، وعلى ادخار الدول، وعلى عملاتها وعمالتها الوطنية، وهو ما سنوضحه فما يلي: –
(1) أضرار غسل الأموال القذرة على دخل الدول وإيرادها.
تعتبر الأموال المهربة إلى خارج الدول في البنوك العالمية لإجراء عمليات الغسل عليها، استقطاعات من دخل وإيراد دولة ما، حيث إن عدم مشروعية المال المهرب خارج الدول تجعل منه نزيفاً لاقتصاد هذه الدولة إلى اقتصاد دولة أخرى خارجية، إذ يحول المال غير المكتسب بطريق مشروع والذي عادة ما يكون على حساب بقية أصحاب الدخول والإيرادات المشروعة في المجتمع.
ومن المعلوم أن عملية تبييض المال القذر تتم خارج حدود البلد الذي أخذت منه خشية انكشاف أمرها ومصادرتها، وهذا يؤدي في النهاية إلى إخراج الأموال الطائلة والمبالغ الكبيرة من هذا البلد، وبالتالي حرمان البلد وأهله منها. مما يدعو إلى القول بأن هذه الأموال الكثيرة لو اكتسبت بالطرق المشروعة لكانت رافداً قوياً للحركة الاقتصادية في البلد، ولما خرجت من داخل حدوده.
كما أن تبييض الأموال القذرة يؤدي حتماً إلى انتقال القوة الاقتصادية من الدول المهرب منها المال إلى دولة أخرى تغسل فيها الأموال، والقوة الاقتصادية بفعل نفوذ وسيطرة رأس المال في المشاريع داخل الدولة المهرب منها يمكن تحويلها إلى قوة سياسية مسيطرة تتحكم في كل مقدرات الدولة، ومن ثم يصبح النفوذ السياسي الذي من أجله تتم محاربة غاسلي الأموال القذرة إلى جملة من الأسباب، أهمها:
أن هذه العمليات تهدد المنظومة الدولية الموحدة للمؤسسات المالية.
كما أنها تعمل على إفساد القادة، وتؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي في الدولة، ولهذا تبذل بعض الدول مثل دولة “كولومبيا” قصارى جهدها لتخليص مؤسساتها السياسية والمالية من النفوذ المتزايد لمافيا المخدرات التي تلجأ إلى غسل أموالها في كولومبيا.
(2) أضرار الأموال القذرة على توزيع دخل الدول.
تترتب على عملية غسل الأموال القذرة أضرار على توزيع دخل الدول وهو ما يبدو من ناحيتين:
أولاً: يؤثر غسل الأموال تأثيراً على توزيع دخل الدول وإيرادها، لأن مصدر الأموال المغسولة في الغالب لا يكون مشروعاً، حيث يحصل طائفة من الناس على أموال من غير وجه مشروع، كما أنها أموال منتزعة من فئات عاملة ومنتجة في المجتمع، أو من مصادر أخرى خارج الدولة، وبذلك يحدث تحول للدخل من فئات كادحة ومنتجة خاصة على مال مشروع إلى طائفة عادية للعمل خالية من الإنتاج حائزة على المال بالطرق غير المشروعة، الأمر الذي يهدد المراكز الاقتصادية في المجتمع، ويحدث نوعاً من التوزيع العشوائي لدخل الدولة، مع ما يصاحبه من زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع.
ثانياً: أن الأموال التي تجري عمليات غسلها خارج الدولة تتهرب من الحقوق المالية الواجبة على رؤوسها كالزكاة والصدقة ونحوها، وهو ما يعني أن الأغنياء مكتسبي المال يظلون بمنأى عن سداد حقوق المال للدولة التي تعتمد عليها في الانفاق على المصالح العامة والخدمات الاجتماعية المتنوعة، وأغراض حفظ التوازن الاجتماعي بين الطبقات، فعملية غسل الأموال وتهريبها تؤدي إلى تعطيل وظيفة هامة من وظائف الدولة، وتحد من قدرة السياسة المالية على إعادة توزيع دخل الدولة وتنظيم وارداتها على نحو يعمل على حفظ التوازن والاستقرار الاقتصادي.


(3) أضرار غسل الأموال القذرة على ادخار الدول.
يترتب على تهريب الأموال بقصد غسلها وتبييضها في الخارج حدوث عجز في المدخرات المحلية للدولة مما يجعلها غير قادرة على الوفاء باحتياجات الاستثمار، ويوسع نطاق الفجوة التمويلية، حيث تودع تلك المدخرات في البنوك الخارجية، دون أن توجه وتصرف في قنوات الاستثمار داخل الدول.
وفي حالة اللجوء إلى غسل الأموال عن طريق شراء الذهب والمجوهرات وبعض السلع الثمينة تتجه الأموال حينئذ إلى تيار الاستهلاك، وبالتالي يقل القدر الموجه للادخار المحلي (الداخلي) للدولة. ويعني هذا أن ثمة علاقة عكسية بين غسل الأموال والادخار المحلي، ومن ثم تلجأ الدول في هذه الحالة إلى تعويض النقص عن احتياجات الاستثمار الإجمالي من خلال تدفق الموارد الأجنبية، حتى تغدو مشكلة الديون الخارجية عبئاً ثقيلاً على كاهل الاقتصاد المحلي للدولة.
إن تأثير غسل الأموال على انخفاض معدل الادخار يعد درباً من دروب الفساد المالي والاقتصادي، ويظهر ذلك بدرجة ملموسة في كثير من الدول التي تشيع فيها الرشوة والتهرب من الواجبات المالية، وانخفاض كفاءة الأجهزة الإدارية عن أداء دورها، الأمر الذي يؤثر سلباً على معدل الادخار للدولة.
وتشير تجارب الدول إلى أن كثيراً من الديون التي اثقلت كاهل الدول الأمريكية اللاتينية على سبيل المثال هي ديون وهمية وغير مشروعة، عقدتها نظم دكتاتورية من أجل التسلح أو القيام بمحاولة تطوير برامجها النووية، بالإضافة إلى هروب أموالها الأصلية إلى الخارج تحسباً للأخطار المتوقعة، وقد قدرت مجموعة الأموال المهربة من ثماني عشرة دولة مدنية خلال عقد واحد – من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانيات الميلادية – بحوالي (200) مائتي مليار دولار، ويترتب على ذلك تثبيط الهمم والجهود الرامية إلى تعبئة الادخار المحلي لهذه الدول، إذ أن كل دولار يهرب إلى الخارج يؤدي إلى نقص مستمر يقدر بحوالي نصف دولار بسبب الطابع الانخفاضي لاقتصاديات الدول النامية، وسرعة اندماجها في حركة رأس المال الدولي.
وهكذا ندرك مدى ما ابتليت به الدول النامية من مشكلة غسل الأموال وتهريبها إلى الخارج ونقص الادخار المحلي اللازم للتمويل، واضطرار تلك الدول إلى الدخول في قفص المديونية الخارجية، وما يرتبط بها من أعباء ناهيك عما يتم نهبه من هذه الديون وإيداعه في حسابات فردية بالخارج، كما حدث أن ارتفعت ديون دولة “زائير” فوصلت إلى (5) خمس مليارات دولار عام 1983م، وكان السبب في هذا أن الثروة الشخصية للرئيس “موبوتو” وقتئذ كانت تزيد على أربع مليارات دولار، فأودع معظمها في حسابات سرية في بنوك سويسرا.


(4) أضرار غسل الأموال القذرة على العملات الوطنية للدول.
يوجد ارتباط وثيق بين عملية غسل الأموال وتهريبها إلى الخارج، وما يعنيه ذلك من زيادة عرض العملة الوطنية مع زيادة الطلب على العملات الأجنبية – كالدولار – التي يتم تحويل الأموال المغسولة المهربة إليها بقصد إيداعها في البنوك الخارجية، أو بغرض الاستثمار بها في الشركات العالمية العملاقة أو نحو ذلك، كل ذلك يؤثر تأثيراً سلبياً على قيمة العملة الوطنية وقوتها الشرائية، وتكون النتيجة لذلك انخفاض تلك العملة مقابل العملات الأجنبية (الصعبة)، بمعنى أن عملية غسل الأموال تساهم بدرجة كبيرة في تدهور قيمة العملة الوطنية للدولة، مما يوجب التصدي لها ومحاربتها حفاظاً لقيمة هذه العملة، وإبقاء لقوتها الثمينة.
وهذا يعني أن غسل الأموال وتهريبها إلى الخارج يُعد أهم معالم العلاقات الاقتصادية الخارجية للدول المتخلفة المنهكة بالديون، مما يُساهم في تدهور أسعار الصرف لعملات هذه الدول، لا سيما في ظل الاتجاه المعاصر إلى استخدام العملات الأجنبية في بعض هذه الدول في المبيعات أو المعاملات التجارية المحلية، وتفضيلها على العملات الوطنية كنتيجة لتدهور القوة الشرائية لهذه العملات الوطنية، وقد أوضحت الدراسات الاقتصادية احصائيات للودائع الخاصة بالهيئات غير المصرفية المودعة في البنوك الأجنبية، والتي بلغت (89,59) مليار دولار أمريكي عام 1984م خاصة بستة عشرة دولة نامية من بينها إسرائيل وتركيا.


(5) أضرار غسل الأموال القذرة على العمالة الوطنية.

مما لا شك فيه أن تبيض الأموال وتهريبها إلى الخارج يؤدي إلى تمكن الجماعات المبيضة أو المهربة من الغلبة والتفوق في المنافسة على المؤسسات التي تمارس أعمالاً مشروعة، بحكم تضخم المال وتوفره في أيديها، وهو ما يؤدي إلى إخراج مؤسسات الأعمال المشروعة والنزيهة من السوق بالإفلاس والبطالة نتيجة عدم قدرتها على المنافسة. وخير مثال على ذلك: ما حدث لبنك الاعتماد والتجارة الدولي قبل أن يعلن لعملائه إفلاسه عام 1991م، حيث أنه من أكبر البنوك العالمية، وكان له أكثر من (160) فرعاً وبلغ رأس ماله (تسعة بلايين دولار) وكان في الرتبة السابعة بين بنوك العالم الثرية، فلما تعرض لغسل الأموال وتبيضها أدى ذلك إلى إعلان إفلاسه وإقفال أبوابه وتصفية حساباته، وخروجه من حلبة التجارة العالمية.

• أضرار غسل الأموال القذرة من الناحية الاجتماعية.

تترتب أضرار اجتماعية عديدة على عملية غسل الأموال، لعل أهمها ازدياد معدلات الجريمة، وزعزعة الأمن والاستقرار في المجتمعات، وهو ما نوضحه فيما يلي: –

(1) أضرار غسل الأموال القذرة في زيادة معدل الجريمة.
تؤثر عملية غسل الأموال وتهريبها خارج بلدها على المجمع ككل من ناحية ارتباطها بالجرائم الاجتماعية، فهي تمثل نوعاً من الأمان للحاصلين على دخول غير مشروعة، كالأموال الناجمة عن تجارة المخدرات والرشوة والغش والتزوير والسرقة والخمور والدعارة ونحوها. لذا فإن نجاح أصحاب هذه الأموال غير المشروعة في الإفلات من ملاحقة السلطات الأمنية واستخدام الأموال القذرة في تصرفات نقدية وعينية يشجع الأخرين على الانزلاق في حمأة الجريمة، فيساعد على زيادة معدل الجريمة محلياً ودولياً.
ولا يخفي أن غسل الأموال يؤدي إلى حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية، حيث أن هناك علاقة بين غسل الأموال وحركات الإرهاب الدولي والعنف الداخلي، فضلاً عن نشاط المافيا العالمية ودورها في حدوث الانقلابات السياسية في بعض الدول النامية، الأمر الذي يزعزع أمن واستقرار المجتمعات، إذ تستخدم عمليات غسل الأموال في توفير الدعم المالي وتمويل التسلح الضروري لحدوث الانقلابات على مستوى العالم، وذلك بالتعاون مع أجهزة متخصصة في تنظيم الصراعات السياسية والمصلحية إقليمياً وعالمياً.
ومن ناحية أخرى تؤدي عملية غسل الأموال وتبييضها إلى تفشي الجرائم وانتشارها، وازياد المجرمين والمعتدين بسبب التحالفات الكثيرة التي تخلقها بين العصابات الإجرامية في البلاد التي تنتشر فيها عمليات غسل الأموال القذرة، فقد عقد مؤتمر في دولة إيطاليا في الفترة من (18-20-/حزيران/1994) نظمه المجلس الاستشاري الدولي العلمي والفني بالتعاون مع حكومة دولة إيطاليا، وتحت رعاية فرع الأمم المتحدة لمنع الجريمة، وكشف عن بعض الحقائق عن عصابات الجريمة التي تقوم بعمليات غسل المال القذر، من بينها: أن هذا النشاط الآثم الجائر أصبح قاسماً مشتركاً بين مختلف مؤسسات الجريمة وبين تشكيلات إجرامية، لا ترقى إلى مستوى التنظيم المؤسسي، مثل تحالف “كارتل كالي” والمافيا الصقلية، وتحالف المافيا الروسية وتشكيلات إجرامية باكستانية ودنماركية وتركية وهولندية.
ولا شك أن حاجة الدول الفقيرة والمؤسسات المفلسة إلى جذب موارد مالية من الخارج لتمويل برامجها وخططها التنموية، تستغل من قبل المجرمين استغلالاً سيئاً، ويجدونها فرصة سائحة لغسل أموالهم القذرة، والقيام باستثمارها في شتى الأعمال التجارية، وليس من السهولة إقناع تلك الدول والمؤسسات بالإسهام وبذل أقصى الجهد والوسع لمكافحة هذه الظاهرة السيئة.
(2) أضرار غسل الأموال القذرة في زعزعة الأمن والاستقرار.
تؤدي عملية غسل الأموال إلى زعزعة الأمن والاستقرار داخل الدول والمجتمعات البشرية، كما تسبب عملية السطو المسلح، وقتل الأبرياء من أجل السيطرة على أموالهم وثرواتهم، الأمر الذي يجعل المجتمع واحة إجرام وظلم وإفساد يفقد أقراده عنصر الأمان والاطمئنان الذي يعد غاية كل حي وأسمى هدف إنساني في كل زمان.
والواقع أن توطد العلاقة بين الأنشطة السياسية الإرهابية وعمليات غسل الأموال أمر ثابت بالتجربة، حيث أجهزة الجاسوسية والمخابرات ونحوها تحتاج إلى تمويل لازم لعملياتها حول العالم، وبالتالي تتجه إلى استخدام البنوك التجارية في توجيه الأموال من دول التجميع إلى دول المزاولة للعمليات السياسية في مختلف أنحاء المعمورة، وقد تلجأ في توجيه الأموال من دول التجميع إلى دول المزاولة للعمليات السياسية في مختلف أنحاء المعمورة، وقد تلجأ بعض الأجهزة إلى استخدام الأموال المغسولة والهاربة في تأسيس شركات وهمية لمزاولة أنشطة صورية تخفي حقيقة نشاطها السياسي ودورها في تدبير العمليات الانقلابية وتنفيذ الأعمال التخريبية الموجهة ضد أنظمة حكم معينة في مختلف الدول والشعوب، وتستخدم بعض الجماعات السياسية حصيلة الأموال القذرة الناتجة عن تجارة المخدرات وتزييف العملات والاتجار بالأعضاء البشرية وغيرها في تمويل عملياتها المسجلة ضد أنظمة الحكم في إطار الصراع على السلطة والجاه والمركز الاجتماعي كما كان الوضع في أفغانستان وغيرها.
فيترتب على عملية غسل الأموال القذرة انتقال الثروة المالية من قبضة الدولة إلى يد العصابات السياسية المجرمة، والثروة الاقتصادية في عصرنا الحالي سلاح عظيم يمكن تحويله إلى قوة سياسية مسيطرة تحكم وتتحكم في كل مقدرات الدولة، وبالتالي يصبح النفوذ السياسي بداخلها في يد عصابات الإجرام، فيؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار السياسي في الدولة، ولهذا بذلت دولة “كولومبيا” جهوداً مكثفة لتخليص مؤسساتها السياسية والمالية من النفوذ الضخ لعصابات المافيا التي كانت تلجأ إلى غسل أموالها بأراضيها.
ينتج عن غسل الأموال أضرار ومخاطر اقتصادية واجتماعية كثيرة، تتأتى من نقل الأموال إلى الخارج كان يمكن استثمارها في التنمية لتغذية الاقتصاد الوطني الذي تفيد منه الدولة والمواطنون وتوظف في مشاريع تمتص الأيدي العاملة وتساهم في الاستقرار.. ويؤدي غسل الأموال إلى الركود الاقتصادي وخفض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وزيادة عجز المدفوعات وارتفاع المديونية الخارجية وارتفاع سعر الفائدة وانخفاض القدرة الإنتاجية وتراجع القوة الشرائية وارتفاع معدلات التضخم.
وبذلك تكون قد أتينا على أهم العناصر الخاصة بغسل الأموال.
وفي المقال القادم سنتحدث عن الأثار الناتجة عن غسل الأموال وبعدها سنتعرض للأحكام العامة لمواجهة الجريمة في القانون الجنائي (الجزائي) مصر والكويت نموذجاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى