وفي الليلة الظلماء… تُفتقد الحوكمة

كما يُفتقد البدر في الليلة الظلماء، تُفتقد الحوكمة الحقيقية في لحظات الأزمات إذا لم تكن راسخة في ثقافة المؤسسة. ففي الرخاء قد يخدعنا بريق التنظيم الشكلي، لكن تحت ضغط الأزمة يظهر معدن المجالس، ووزن القرارات، وصدق الشفافية.”
في الأوقات الهادئة، حين تكون الأرباح متحققة والسوق صاعد، قد تبدو آلية الحوكمة وكأنها طقوس روتينية. تتدفق التقارير بانتظام، وتعقد الاجتماعات وفق جدولها المحدد، وتُتخذ القرارات في إطار من الرضا العام. لكن هذه الصورة النمطية سرعان ما تتبدد عند أول اختبار حقيقي. فالأزمة، بشدتها وضبابيتها، هي المحك الذي يفصل بين «حوكمة الشكل» و«حوكمة الجوهر». هي اللحظة التي يتحول فيها مجلس الإدارة من هيئة استشارية إلى قيادة استراتيجية، وتنتقل فيها اللجان من دورها التقريري إلى كونها أذرع عمل تكتيكية.
لماذا تختلف الحوكمة في الأزمات؟
الفرق جوهري. ففي أوقات الازدهار، تركز الحوكمة على النمو والالتزام لضمان سير العمليات ضمن الأطر القانونية والتنظيمية المعتمدة. أما في الأزمات، فإنها تتحول فجأة إلى التركيز على البقاء والمرونة. هنا، تظهر قيمة الثقافة المؤسسية التي تم بناؤها خلال سنوات الرخاء: الثقة، الشفافية، والمساءلة.
مكونات الحوكمة الفعالة أثناء العاصفة
أولا: مجلس الإدارة: من الإشراف إلى القيادة
في الأزمة، يتحول مجلس الإدارة من كونه جهة رقابية إلى قائد استراتيجي. الفعالية هنا لا تقاس بعدد الاجتماعات، بل بجودتها وتركيزها. المجلس الفعال يوازن بين السرعة والحكم فلا يتسرع في قرارات قد تهدر الموارد، ولا يتردد حتى تضيع الفرصة. يشكل خلية أزمات مصغرة لاتخاذ القرارات الحساسة تحت الضغط كما يحدد الأولويات بواقعية ويتخلى عن الأهداف الطموحة طويلة المدى مؤقتاً لصالح الحفاظ على رأس المال، حماية السمعة، وضمان استمرارية العمليات الحيوية إضافة إلى ذلك فإنه يطلب البيانات لا التقارير يتحول من قراءة تقارير مالية ربع سنوية إلى متابعة مؤشرات أداء يومية (KPIs) حية حول التدفق النقدي، معنويات الموظفين، وتوقعات العملاء.
ثانيا: لجان الفعالة من الاستشارة إلى التنفيذ
تتحول اللجان المتخصصة من دورها الاستشاري إلى وحدات عمل مكثفة فلجنتي التدقيق والمخاطر تراقب المخاطر المالية والتشغيلية بشكل يومي، وتقيّم تأثير الأزمة على السيولة والالتزامات كما تقوم لجنة الترشيحات والمكافآت تُعِدُّ نماذج طوارئ لهيكلة التعويضات للحفاظ على المواهب الأساسية وتقليل التكاليف دون التأثير على الروح المعنوية مع تشكيل لجان طوارئ أخرى للتواصل ولتشرف مباشرة على كل رسالة تصل إلى المساهمين، العملاء، والجمهور ولأصحاب المصالح لضمان الاتساق وحماية السمعة.
ثالثا: حرفية أمانة السر: الشريان العصبي للأزمة
في خضم الفوضى، تصبح جودة وسرعة تدفق المعلومات هي العامل الحاسم. أمانة السر الفعالة تضمن أن تكون البيانات المقدمة للمجلس والإدارة دقيقة وموثوقة وخالية من الضوضاء وتقوم بتوثيق كل القرارات وآثارها فوراً، ليس للمساءلة فقط، بل للتعلم المستقبلي وتنشأ قنوات اتصال واضحة وسريعة بين المجلس والإدارة التنفيذية، مما يلغي الروتين البيروقراطي المعتاد.
رابعا: الإدارة التنفيذية: ترجمة القرارات إلى أفعال على الأرض
إذا كان مجلس الإدارة هو العقل الاستراتيجي، فإن الإدارة التنفيذية هي القلب النابض واليد المنفذة. ويعتمد نجاحها على الوضوح التام في توجيهات المجلس والمرونة التشغيلية في إعادة توزيع الموارد وتعديل الخطط التنفيذية في الوقت الفعلي.
الأزمة اختبار لثقافة الحوكمة، وليس للخطط فحسب
قد تكون لديك أفضل خطط إدارة الأزمات على الورق، ولكن إذا كانت ثقافة المؤسسة قائمة على إلقاء اللوم أو إخفاء المعلومات المخيفة، فسوف تنهار هذه الخطط. وعادة ما تكشف الأزمة مدى الثقة بين أعضاء المجلس والإدارة التنفيذية في الصدق والشفافية في التواصل مع جميع أصحاب المصلحة والاستعداد للتضحية بمكاسب قصيرة الأجل من أجل مصالح طويلة الأجل للمؤسسة.
الإرث الذي تُبنى عليه السمعة
النجاح في إدارة أزمة كبرى لا يُنسى. إنه يبني رأس مال من الثقة مع المساهمين والعملاء والموظفين، يكون درعاً واقياً للمؤسسة لسنوات قادمة. على العكس من ذلك، الفشل في حوكمة الأزمة يمكن أن يمحو عقوداً من السمعة الطيبة في لحظات.
لذلك، يجب على كل مجلس إدارة أن يسأل نفسه ليس فقط “هل خططنا جاهزة؟”، بل الأهم: “هل ثقافتنا جاهزة؟”. لأن الأزمة القادمة، حتماً، لن تسأل عن خططك المكتوبة، بل ستختبر قيمك التي خلقتها على أرض الواقع. والفرق بين الاثنين هو بالضبط الفرق بين حوكمة الشكل وحوكمة الجوهر.