اقتصاد عالميمقالات

الركود التضخمي الخفيف: الوجه الجديد للاقتصاد الأمريكي

بقلم/ د. محمد جميل الشبشيري

Elshebshiry@outlook.com

لطالما اعتمد الاقتصاديون على ما يُعرف بـ ”الدورة الاقتصادية” لفهم تحركات الاقتصاد، والتنبؤ بمستقبله. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ الاقتصاد الأمريكي يظهر سلوكًا غير مألوف، ويبدو في بعض الجوانب وكأنه يخرج عن النص المعتاد للدورات الاقتصادية. فما الذي يحدث بالضبط؟ وهل ما زالت “الدورة الاقتصادية” تنطبق على الاقتصاد الأمريكي اليوم؟

ما هي الدورة الاقتصادية؟

الدورة الاقتصادية هي سلسلة من المراحل التي يمر بها أي اقتصاد بمرور الزمن، وهي تتكرر عادة بالشكل التالي:

1- التوسع (الانتعاش): حيث ينمو الاقتصاد، وترتفع معدلات التوظيف والإنتاج.

2- الذروة: وهي النقطة التي يبلغ فيها النمو الاقتصادي أقصاه.

3- الانكماش أو الركود: عندما يبدأ النمو بالتباطؤ، وتقل فرص العمل، وقد ينخفض الناتج المحلي.

4- القاع: وهي المرحلة الأدنى من النشاط الاقتصادي قبل أن يبدأ الاقتصاد في التعافي مرة أخرى.

هذا النموذج يساعد الحكومات والشركات والمستثمرين على اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على المرحلة التي يمر بها الاقتصاد.

الاقتصاد الأمريكي الآن: دورة مشوشة؟

رغم أن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة مرتفعة نسبيًا (وهو أمر يُفترض أنه يحد من النمو)، إلا أن البطالة لا تزال عند مستويات منخفضة. ومع أن هناك تباطؤًا واضحًا في سوق الإسكان والتصنيع، إلا أن أسعار المنازل والإيجارات تستمر في الارتفاع. كما أن التضخم لم يرتفع بالشكل المتوقع رغم الرسوم الجمركية الضخمة المفروضة على التجارة.

كل هذه الظواهر توحي بأن الاقتصاد الأمريكي لا يتصرف كما تفترضه الدورة الاقتصادية التقليدية. فما السبب؟

اضطرابات غير تقليدية تُعقّد الصورة

يشير الخبراء إلى أن هناك عوامل متوسطة وطويلة الأجل تتسبب في تشويش استجابة الاقتصاد، مما يؤدي إلى ما يمكن تسميته “كتم الصوت” للدورة الاقتصادية العادية. ومن أهم هذه العوامل:

1- السياسة التجارية والرسوم الجمركية

الولايات المتحدة فرضت رسومًا جمركية غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى تخزين الشركات للمخزون بشكل غير معتاد خوفًا من ارتفاع التكاليف مستقبلاً. هذا خلق تقلبات حادة في الأرقام الاقتصادية، خاصة في الناتج المحلي والتضخم.

2- اضطرابات سلاسل التوريد

منذ جائحة كورونا، لم تتعافَ سلاسل التوريد بشكل كامل، ولا تزال العديد من الشركات في طور إعادة تنظيم عملياتها. هذه التغيرات تُعد “هيكلية” بطبيعتها، أي طويلة الأجل، ولا تتبع الدورة الاقتصادية الطبيعية.

3- فصل بين القطاعات

بعض القطاعات، مثل التصنيع، تتأثر أكثر بالتجارة والرسوم، بينما تبقى قطاعات أخرى مثل الخدمات أو التكنولوجيا في حالة نمو. هذا التباين يجعل من الصعب الاعتماد على مؤشرات موحدة لقراءة الاقتصاد ككل.

هل نحن في حالة ركود تضخمي خفيف؟

وفقًا لتحليل اقتصادي صادر عن RBC، يمكن وصف الحالة الراهنة للاقتصاد الأمريكي بأنها “ركود تضخمي خفيف” (Stagflation Lite)، وهي حالة يتباطأ فيها النمو الاقتصادي، بينما يظل التضخم أعلى من المعدلات المريحة، دون أن يصل إلى مستويات الأزمة.

هذه الحالة ليست ركودًا كاملاً، وليست تضخمًا جامحًا، ولكنها تخلق صعوبة كبيرة في التنبؤ بالتوجهات القادمة.

المؤشرات الاقتصادية ودورها في فهم الواقع الجديد

في ظل هذه التغيرات، يصبح فهم المؤشرات الاقتصادية أكثر أهمية من أي وقت مضى. يمكن تصنيف المؤشرات الاقتصادية إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

* المؤشرات الرائدة (Leading Indicators): تتنبأ بالتحولات الاقتصادية المستقبلية قبل حدوثها، مثل سوق الأسهم، وتصاريح البناء، وطلبات التصنيع الجديدة، وثقة المستهلك. تُعد هذه المؤشرات ذات قيمة عالية للمستثمرين وصناع القرار لأنها توفر إنذارًا مبكرًا للتغيرات الاقتصادية.

* المؤشرات المتزامنة (Coincident Indicators): تقيس النشاط الاقتصادي الحالي وتتغير بالتزامن مع الاقتصاد، مثل الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، والإنتاج الصناعي، والدخل الشخصي، ومبيعات التجزئة. تُستخدم هذه المؤشرات لتأكيد حدوث التحولات الاقتصادية وتوفير سياق للمؤشرات الرائدة.

* المؤشرات المتأخرة (Lagging Indicators): تتغير بعد أن يكون الاقتصاد قد بدأ بالفعل في اتباع اتجاه معين، مثل معدل البطالة، وأرباح الشركات، والتضخم. على الرغم من أنها لا تتنبأ بالأحداث المستقبلية، إلا أنها تؤكد الاتجاهات طويلة الأجل وتتحقق مما اقترحته المؤشرات الرائدة سابقًا.

إن الاعتماد على مجموعة متنوعة من هذه المؤشرات، وليس فقط المؤشرات التقليدية، أصبح ضروريًا لتكوين صورة شاملة ودقيقة عن صحة الاقتصاد الأمريكي.

ما المطلوب لفهم الاقتصاد الأمريكي اليوم؟

في ظل هذه الفوضى الاقتصادية النسبية، يوصي الخبراء بعدم الاعتماد فقط على مؤشرات تقليدية مثل الناتج المحلي الإجمالي أو مؤشر التصنيع. وبدلاً من ذلك، يجب:

* التركيز على الإنفاق المحلي النهائي كمؤشر أكثر دقة على نبض الاقتصاد الداخلي.

* إجراء تحليلات أكثر تفصيلاً على مستوى القطاعات والأنشطة الاقتصادية.

* إدراك أن التغيرات الهيكلية مثل إعادة تشكيل سلاسل التوريد ستستمر في التأثير على الأداء الاقتصادي لسنوات.

خاتمة

يُظهر الاقتصاد الأمريكي اليوم تحولات عميقة تتجاوز الأطر التقليدية للدورة الاقتصادية. فمع استمرار تأثير عوامل مثل السياسات التجارية المتقلبة، واضطرابات سلاسل التوريد الهيكلية، والتباينات القطاعية، أصبح من الضروري تبني منظور أوسع وأكثر دقة لفهم ديناميكياته. إن وصف “الركود التضخمي الخفيف” يعكس واقعًا اقتصاديًا معقدًا يتطلب من المحللين وصناع القرار تجاوز المؤشرات الكلية التقليدية والتركيز على تحليلات أكثر تفصيلاً للإنفاق المحلي النهائي وأداء القطاعات المختلفة.

إن تحديث أدواتنا الذهنية والاقتصادية، والاعتماد على فهم شامل للمؤشرات الرائدة والمتزامنة والمتأخرة، سيساعدنا على التنقل في هذا المشهد الاقتصادي المتغير. فالاقتصاد الأمريكي، وإن لم يكن في أزمة واضحة، فإنه يمر بمرحلة تحول جوهرية قد تعيد صياغة فهمنا للدورات الاقتصادية في المستقبل وتتطلب استراتيجيات جديدة للتكيف والنمو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى