الأثرياء يزدادون ثراءً… والسبب سوق الأسهم

بقلم – ليما راشد الملا
في حقبةٍ تعود فيها موجات الثراء إلى الواجهة كما في فترات الازدهار الكبرى، تتعمّق في الولايات المتحدة الفوارق بين الأثرياء وسائر الطبقات. ففي غضون ثلاثة أشهر فقط، أضاف أغنى 10٪ من الأميركيين نحو خمسة تريليونات دولار إلى ثرواتهم، مستفيدين من صعود سوق الأسهم الذي يبدو أنه لا يعرف التراجع.
لكن ما يبدو “خبرًا اقتصاديًا إيجابيًا” يخفي في طياته واقعًا أكثر تعقيدًا: فهذه المكاسب الهائلة لم تذهب إلى عامة الناس، بل تركزت في أيدي فئة محدودة للغاية من المستثمرين. ووفقًا لأحدث بيانات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فإن أغنى 1٪ فقط أضافوا وحدهم نحو أربعة تريليونات دولار خلال عام واحد، لترتفع ثرواتهم الإجمالية إلى أكثر من 52 تريليون دولار — رقمٌ يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لمعظم دول العالم مجتمعة.
من يمتلك السوق… يمتلك المستقبل
المفارقة الكبرى أن هذه الأرقام لا تمثل مجرد نجاح استثماري، بل تكشف عن تحوّل هيكلي في الاقتصاد الأميركي. فاليوم، يمتلك 10٪ فقط من السكان أكثر من 87٪ من الأسهم وصناديق الاستثمار، أي أن معظم مكاسب السوق تصب في جيوب قلة من الناس. أما 90٪ من الأميركيين، الذين يشكّلون الطبقة العاملة والمتوسطة، فيتشاركون الثلث المتبقي من الثروة فقط.
الأمر لا يتوقف عند الأرقام، بل يمتد إلى ملامح الاقتصاد الجديد. شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أصبحت المحرك الرئيسي لهذه المكاسب. صعود أسهم “وادي السيليكون” ضاعف ثروات شخصيات مثل إيلون ماسك، ولاري إليسون، وجيف بيزوس، الذين أصبحوا رموزًا لمرحلة “الثراء عبر التقنية”. فكل طفرة في الذكاء الاصطناعي أو الحوسبة السحابية تعني زيادة مباشرة في قيمة الشركات التي يمتلكونها، وبالتالي في ثرواتهم الشخصية.
الأسهم لم تعد أداة استثمار فقط
سوق الأسهم، في السابق، كان يُنظر إليه كوسيلة لبناء الثروة ببطء — استثمار طويل الأمد في نمو الشركات والإنتاج. أما اليوم، فقد تحوّل إلى آلة ضخمة لإعادة توزيع الثروة نحو الأعلى. فالارتفاعات اليومية في المؤشرات الرئيسية، من “ناسداك” إلى “إس آند بي 500”، لا تعبّر عن تحسّن شامل في الاقتصاد بقدر ما تعبّر عن تضخم قيم الشركات العملاقة، التي لا يملك أسهمها إلا من هم بالفعل أثرياء.
وفي النصف الأول من عام 2025 فقط، ارتفع عدد الأثرياء الأميركيين بأكثر من 6٪، بحسب تقارير المؤسسات المالية العالمية. وتُظهر البيانات أن 41٪ من فاحشي الثراء في العالم يعيشون في الولايات المتحدة، وهو دليل آخر على أن الثروة لا تُوزَّع بالتساوي حتى على مستوى الكوكب.
الفجوة التي تتسع بصمت
من الناحية الاجتماعية، هذه الديناميكية تنذر بعواقب عميقة. فكلما ارتفعت الأسواق، زادت الفوارق الطبقية، لأن معظم الأميركيين لا يمتلكون ما يكفي من الأصول للاستفادة من تلك المكاسب. على الجانب الآخر، تتضخم الثروات في القمة ويرجع ذلك لعوائد رأس المال، وليس بسبب الأجور أو الإنتاج الحقيقي.
إنها دائرة مغلقة: ارتفاع الأسهم يرفع ثروة الأغنياء، فيزيدون استثماراتهم في الأسهم، فتزداد الأسعار مجددًا… وهكذا. أما الفئات الأقل ثراءً، فتجد نفسها عالقة في اقتصاد يزداد فيه كل شيء غلاءً — من السكن إلى التعليم — دون أن تواكب دخلها هذا الارتفاع.
ختامًا: من يملك الأسهم يملك السلطة
في النهاية، يمكن القول إن سوق الأسهم ليس فقط ميدان مالي، بل أصبح أداة لإعادة رسم خريطة القوة الاقتصادية والاجتماعية في أميركا. إنها ليست قصة نجاح فردية، بل تمثل واقعًا تُعاد فيه الثروة لتستقر في أيدي من يملكون زمام رأس المال.
ما يجري اليوم هو تذكير صارخ بأن الثروة لا تُخلق من فراغ، بل تُنقل من طبقة إلى أخرى وفق قواعد السوق التي صاغها الأقوياء. فكل صعود في الأسهم لا يعني بالضرورة نموًّا في الإنتاج أو تحسّنًا في معيشة الناس، بل غالبًا ما يؤكد اتساع نفوذ رأس المال على حساب الجهد والعمل.
وإن لم تتحوّل هذه المكاسب إلى فرصٍ حقيقية تعيد التوازن للعدالة الاقتصادية، فستتسع الهوة بين من يملكون الأصول ومن يعيشون على الدخل الثابت، وهذا دون شك يهدّد بتآكل الطبقة الوسطى التي كانت لعقود العمود الفقري للمجتمع الأميركي.
فمن يملك الأسهم اليوم لا يمتلك الثروة فحسب، بل يمتلك أيضاً القدرة على توجيه القرارات وصياغة ملامح الاقتصاد العالمي. وفي عالمٍ تُهيمن عليه الأرقام والمؤشرات، أصبحت السلطة تُقاس لا بعدد الأصوات، بل بعدد الأسهم.