الذهب بين قرارات الفيدرالي الأميركي والتحولات الجيوسياسية: إلى أين يتجه المعدن النفيس؟

بقلم/ ليما راشد الملا
سجلت الأسواق العالمية في الأسابيع الأخيرة تقلبات لافتة عقب إعلان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عن خفض جديد في أسعار الفائدة، وهو القرار الذي أعاد خلط الأوراق أمام المستثمرين وصنّاع السياسات. ففي اللحظات الأولى، ارتفع الذهب إلى مستوى قياسي بلغ 3,707.57 دولار للأونصة، قبل أن يتراجع سريعًا إلى حدود 3,660 دولار مع تعافي مؤشر الدولار الأميركي. هذا التباين الحاد بين الصعود والهبوط يؤكد هشاشة المزاج الاستثماري، لكنه في الوقت نفسه يكشف أن الاتجاه الطويل الأمد للذهب يبقى في منحى تصاعدي، مدعومًا بجملة من العوامل الأساسية.
الذهب ومعادلة الفائدة والدولار
من المعروف أن الذهب يكتسب جاذبية إضافية عندما تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة، إذ يقلّ العائد على السندات والأصول الأخرى، فتتراجع “تكلفة الفرصة” للاحتفاظ بالمعدن الذي لا يدر فائدة. قرار الفيدرالي الأميركي، رغم أنه جاء متوقعًا، زاد من الطلب على الذهب كملاذ آمن، خاصة بعد الضغوط السياسية المستمرة من البيت الأبيض لتخفيف تكاليف الاقتراض. ومع ذلك، فإن تصريحات جيروم باول، رئيس الفيدرالي، التي بدت أقل ميلاً للتيسير مقارنة بخطابه السابق في جاكسون هول، منحت الدولار دفعة قوية وأعادت بعض التوازن المؤقت إلى السوق.
لكن السؤال الأهم يبقى: إلى أي مدى يستطيع الدولار الحفاظ على زخمه في ظل بيئة مالية عالمية تبحث عن بدائل استراتيجية له؟
العوامل الهيكلية الداعمة للذهب
1- ضعف الثقة بالدولار: العديد من البنوك المركزية، خصوصًا في آسيا والشرق الأوسط، تواصل تنويع احتياطاتها بعيدًا عن العملة الأميركية.
2- التوترات الجيوسياسية: من الحرب التجارية المستمرة بين القوى الكبرى إلى الصراعات الإقليمية، هذا الأمر يزيد الطلب على الأصول الآمنة.
3- الطلب الرسمي: مشتريات البنوك المركزية من الذهب بلغت مستويات قياسية هذا العام، وهو ما يدعم الاتجاه الصاعد للأسعار.
4- فقدان الثقة بالدور الاحتكاري للدولار: تراجع الإيمان بقدرة العملة الأميركية على الاستمرار كملاذ عالمي أوحد يفتح الباب أمام الذهب كخيار استراتيجي.
هذه العوامل مجتمعة تطرح سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام بداية نهاية “الهيمنة المطلقة” للدولار على النظام المالي العالمي؟
سلوك المستثمرين وتصحيح الأسعار
الارتفاع الحاد للذهب بنحو 40% منذ بداية العام يتجاوز أداء مؤشرات كبرى مثل S&P 500، الأمر الذي أدى إلى أن يكون عرضة لتصحيحات فنية. المؤشرات التقنية، ومنها مؤشر القوة النسبية على مدى 14 يومًا، أظهرت وصول الذهب إلى منطقة “تشبع شرائي”، ما دفع المستثمرين إلى جني الأرباح عقب إعلان الفيدرالي. إلا أن هذه التراجعات تبدو أقرب إلى “استراحة صحية” في مسار صاعد طويل الأجل، وليست بداية لانعكاس سلبي كبير.
آفاق مستقبلية وتحولات عالمية
تشير معظم التقديرات إلى احتمال وصول سعر الذهب إلى حدود 4,000 دولار للأونصة بحلول منتصف عام 2026، نتيجة استمرار الطلب الرسمي من البنوك المركزية وتزايد حدة الاضطرابات الجيوسياسية. ويُتوقع أن يسهم هذا الارتفاع في إعادة تشكيل هيكل الاحتياطيات النقدية العالمية، من خلال تعزيز موقع الذهب كأصل استراتيجي موازٍ للدولار.
وفي هذا السياق، ستجد الاقتصادات الناشئة نفسها أمام واقع جديد يتسم بانحسار تدريجي في هيمنة العملة الأميركية، مقابل تصاعد دور الذهب كخيار احتياطي رئيسي ضمن المحافظ النقدية الرسمية. ومع تراجع مستويات الثقة في فعالية السياسات النقدية التقليدية، نجد الذهب كـ “عملة صامتة” عابرة للحدود والسياسات، قادرة على إرساء توازن أوفر في النظام المالي الدولي، ودعم مسار تنويع الأصول الاحتياطية على المديين المتوسط والطويل.
المحصلة النهائية
لم يعد الذهب يُنظر إليه كسلعة عادية أو مجرد مخزن تقليدي للقيمة، بل تحوّل إلى مؤشر دقيق يشير إلى مسار التحولات في النظام الاقتصادي العالمي.
صحيح أن قرار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بخفض أسعار الفائدة شكّل الشرارة التي أعادت المعدن الأصفر إلى صدارة المشهد، غير أن العوامل الأكثر عمقًا تتمثل في تراجع الثقة بالدولار، وتصاعد حدة المخاطر الجيوسياسية، وتنامي توجه الدول إلى البحث عن أدوات فعّالة لتقليل المخاطر الناجمة عن التضخم وضعف العملات.
لا يزال التساؤل مطروحًا: هل سيكون العالم على أعتاب ولادة نظام نقدي عالمي أكثر تنوعًا يقوم على توازن بين الدولار والذهب وربما عملات أخرى؟ الإجابة لا تزال غير محسومة، لكن المؤكد أن الذهب يواصل تقدمه كـ”الحَكَم الصامت” في زمن التحولات الكبرى.