مقالات

قصة تحول عبء اللجوء إلى التأثير الإيجابي في الاقتصاد الألماني

بقلم – ليما راشد الملا

 

قبل عشر سنوات، كانت صور اللاجئين السوريين على حدود أوروبا تختصر مأساة الحرب والنزوح. أما اليوم، فقد تحوّل هؤلاء اللاجئون إلى قوة اقتصادية فاعلة في واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم — ألمانيا ، حيث لم يكتفِ السوريون بإعادة بناء حياتهم، بل ساهموا في إعادة تشكيل سوق العمل الألماني نفسه، وأثبتوا أن الهجرة ليست عبئاً كما اعتقد البعض، بل فرصة للنمو والتجديد.

وفقًا لآخر الإحصاءات الرسمية، يعيش في ألمانيا نحو مليون سوري، يمثلون أكبر جالية عربية في البلاد. من بين هؤلاء، 83 ألف سوري حصلوا على الجنسية الألمانية خلال عام 2023 فقط، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ التجنيس الألماني الحديث، ويؤكد عمق اندماج هذه الجالية وثقة السلطات بمساهمتها الاقتصادية والاجتماعية.

لكن الإنجاز الأهم يتمثل في سوق العمل. فبحسب بيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي، يعمل 670 ألف سوري حالياً في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية، ما يعني أن الغالبية العظمى منهم لم يعودوا يعتمدون على المساعدات الحكومية، بل أصبحوا دافعي ضرائب ومشاركين مباشرين في الاقتصاد الوطني.

ومن منتصف عام 2023 وحتى منتصف 2024 فقط، انضم 213 ألف سوري جديد إلى سوق العمل الألماني، في وقت تعاني فيه البلاد من نقص حاد في الكوادر المتخصصة نتيجة الشيخوخة السكانية وتراجع معدلات الولادة.

سدّ الفجوة في قطاعات النقص

يعمل السوريون اليوم في المهن التي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد الألماني.

في قطاع الصحة، هناك 5300 طبيب سوري يعملون في المستشفيات والعيادات، يقدّمون خدمات ضرورية لنظام يعاني نقصاً كبيراً في الأطباء.

وفي قطاع السيارات، أحد أهم الصناعات الألمانية، يشتغل أكثر من 4000 سوري في خطوط الإنتاج والتصميم والصيانة.

أما في مجالات الكهرباء والبناء والتكييف، التي تواجه فجوة متزايدة في الأيدي العاملة، فيعمل نحو 5000 سوري، يسدّون عجزاً حقيقياً في هذه القطاعات الحيوية.

هذا الانتشار المهني المتنوع جعل السوريين جزءاً لا يتجزأ من الدورة الاقتصادية الألمانية.

ووفق التقديرات، فإن كل مهاجر سوري يساهم بما يقارب 8300 دولار سنوياً في ميزانية الدولة الألمانية عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة.

هذا المبلغ، حين يُضرب بمليون سوري تقريباً، يعني أن الجالية السورية تضخ أكثر من 8.3 مليارات دولار سنوياً في الخزينة العامة — رقم ضخم يعني التحول من “لاجئين يتلقّون الدعم” إلى “مواطنين منتجين”.

قصة انتقالٍ من العبء إلى التأثير الإيجابي في الاقتصاد

عندما فتحت ألمانيا أبوابها أمام اللاجئين السوريين عام 2015، انقسم الرأي العام.

هناك من رأى في القرار خطوة إنسانية جريئة، وهناك من اعتبره مغامرة مكلفة قد تثقل كاهل الدولة.

لكن السنوات الماضية أثبتت أن الرؤية الأولى كانت الأصدق.

ففي الوقت الذي تواجه فيه ألمانيا تراجعاً ديموغرافياً خطيراً — إذ يتوقّع أن يفقد سوق العمل نحو 7 ملايين عامل بحلول 2035 — جاءت الموجة السورية لتعطي الاقتصاد نَفَساً جديداً، وتوفّر قاعدة شبابية مؤهلة قادرة على الاندماج بسرعة.

الأكثر لفتاً للنظر هو أن النجاح لم يكن اقتصادياً فحسب، بل اجتماعياً أيضاً.

بعد أن أصبح السوريون جزءاً فاعلاً من المدارس والمهن والجامعات، تغيّرت نظرة كثير من الألمان إلى المهاجرين.

من “لاجئين يحتاجون المساعدة” إلى “شركاء في بناء المستقبل”.

اليوم، تجد الطبيب السوري، والمهندس، والمعلم، والخباز، والعامل في المصنع، وجميعهم يسهمون في صورة جديدة لألمانيا أكثر تنوّعاً وانفتاحاً.

الخلاصة

الاقتصاد الألماني، الذي كان يواجه تحديات في سوق العمل ونقصاً في الكفاءات، تحوّلت الجالية السورية إلى محرّك جديد للنمو الاقتصادي،

فالمعادلة تغيّرت: لم يعد اللاجئ رمزاً للأزمة، بل عنصراً في الحل.

ومن خلال العمل والضرائب والابتكار، نجح السوريون في قلب المعادلة الاقتصادية والاجتماعية في ألمانيا، وأثبتوا أن الاستثمار في الإنسان — مهما كانت خلفيته أو بلده الأصلي — قد يكون أعظم استثمار تقوم به أي دولة.

اليوم، حين تسير في شوارع برلين أو هامبورغ أو كولونيا، وتسمع لهجة شامية في عيادة أو ورشة أو مطعم، ستدرك أن قصة السوريين في ألمانيا ليست قصة لجوء… بل قصة نهوض وتنمية اقتصادية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى