مقالات

كيف يخطط العراق لمستقبله النفطي؟

يواصل العراق المضيّ قدمًا في تنفيذ واحدة من أكثر استراتيجيات الطاقة طموحًا منذ عقود، بهدف الوصول إلى إنتاج 6 ملايين برميل نفط يوميًا بحلول عام 2029، في خطوة تؤكد رغبة بغداد في تعزيز مكانتها في سوق الطاقة العالمي. هذه الطموحات تأتي في ظل تحولات عالمية متسارعة في قطاع الطاقة، ومع تحديات داخلية تتعلق بالبنية التحتية والاستثمار والحوكمة الاقتصادية.

تستند الرؤية العراقية الجديدة إلى خطة تطوير للطاقة وتكون شاملة تتضمن 29 مشروعًا نفطيًا موزعة على 12 محافظة، تتنوع بين استكشاف حقول جديدة، وتحديث البنى التحتية القديمة، وتوسيع قدرات الإنتاج والتكرير. وتشكل هذه المشاريع، إلى جانب استقطاب استثمارات أجنبية ضخمة، الأساس لتحقيق الأهداف الإنتاجية الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة.

ومن بين أهم هذه المشاريع، اتفاق العراق مع شركة توتال إنرجيز الفرنسية لتطوير حقل أرطاوي النفطي بقيمة 27 مليار دولار، وهو مشروع متكامل يجمع بين إنتاج النفط والغاز والطاقة المتجددة. ويُعد هذا الاتفاق من أضخم الاستثمارات الأجنبية في تاريخ العراق الحديث، إذ يهدف إلى تعزيز إنتاج النفط، واستغلال الغاز المصاحب، وتزويد شبكة الكهرباء بطاقة نظيفة وأكثر استقرارًا.

وفي السياق ذاته، وقّعت بغداد عقدًا مع شركة صينية لإنشاء شبكة أنابيب لتوزيع مياه البحر على عدد من الحقول النفطية، بهدف تعزيز عمليات الحقن المائي وزيادة الإنتاجية، وهي خطوة أساسية لتمكين الحقول من الحفاظ على معدلات إنتاج مرتفعة على المدى الطويل. كما تجري الحكومة محادثات مع إكسون موبيل بشأن مشاريع طاقة كبرى، إلى جانب توقيع اتفاقية مع شيفرون لاستكشاف مناطق نفطية جديدة، في إطار تنويع الشراكات الدولية وضمان الاستقرار الاستثماري في القطاع.

لكن طموحات بغداد لا تقتصر على زيادة الإنتاج الخام فحسب، بل تتعدى ذلك إلى تحقيق التحول الصناعي في قطاع الطاقة. فالحكومة تسعى إلى تحويل ما لا يقل عن 40% من صادرات النفط الخام إلى مشتقات عالية القيمة بحلول عام 2030، بما في ذلك الوقود المكرر والمنتجات البتروكيميائية. ويهدف هذا التوجه إلى تقليل الاعتماد على تصدير النفط الخام كمصدر رئيسي للإيرادات، وزيادة العائدات عبر القيمة المضافة للصناعات التحويلية.

وفي موازاة ذلك، تعمل بغداد على تحقيق الاكتفاء الذاتي في المشتقات النفطية بحلول عام 2027 من خلال تطوير المصافي المحلية وتحديث خطوط الإنتاج، وهذا بدوره سيخفف من استيراد الوقود ويعزز الميزان التجاري. كما يتكامل هذا المسار مع خطط الاستثمار في الطاقة المتجددة، لا سيما الطاقة الشمسية، واستغلال الغاز المصاحب للحد من الحرق الميداني الذي يكلف البلاد مليارات الدولارات سنويًا ويضر بالبيئة.

يأتي هذا التوجه ضمن رؤية أوسع تسعى إلى توازن اقتصادي مستدام، بحيث لا يعتمد العراق فقط على النفط الخام، بل على منظومة طاقة متكاملة تجمع بين الإنتاج والتكرير والتصدير والتكنولوجيا النظيفة. هذا التحول، رغم طموحه الكبير، يتطلب استقرارًا سياسيًا، وتحسين بيئة الأعمال، وتطوير البنية التحتية الداعمة للاستثمارات الكبرى.

في نهاية المطاف، يبدو أن العراق يتجه نحو إعادة صياغة دوره في خريطة الطاقة العالمية، من مجرد منتج تقليدي يعتمد على تصدير النفط الخام، إلى فاعل اقتصادي يسعى لقيادة التحول الإقليمي في مجال الطاقة. وإذا تمكن من تحقيق هذه الأهداف خلال العقد المقبل، فسيصبح العراق ليس فقط ثاني أكبر منتج في “أوبك”، بل نموذجًا لدولة نفطية استطاعت تحويل مواردها إلى أدوات تنمية مستدامة واقتصاد متنوع يواكب متغيرات القرن الحادي والعشرين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى