مقالات

أركان وعناصر جريمة إفشاء السر

لا يزال الحديث موصولاً عن جريمة “إفشاء السر المتصل بالعمل أو الوظيفة أو المنصب”… وقد انتهى بنا الحديث عن مصدر الإلزام القانوني بحفظ السر… وهذا الحديث يجُرُنا إلى عدة تساؤلات وهي: –

ما هو نوع المعلومة التي يمكن أن تعتبرها سراً؟ وما هو المعيار الضابط في ذلك… أو بمعنى أوضح هل يلزم أن يكون هناك نص من قانون أو لائحة يُلزم صاحب العمل أو المهنة أو الوظيفة بحفظ هذا السر أم أن السر يٌستنبط ويُعرف من طبيعة الوظيفة وطبيعة المعلومة فتقدر تقديراً موضوعياً؟

يرى الدكتور حسين بوعركي أنه لا يلزم أن يكون هناك نص يوجب على صاحب المهنة أو الوظيفة أو العمل بحفظ هذا النوع من الأسرار وإنما ينظر لطبيعة العمل أو المهنة أو الوظيفة التي يؤديها فإن كانت بطبيعتها تمكنه من الاطلاع على هذا السر كان ذلك كافياً لإقرار وتأسيس الالتزام القانوني بحفظ السر ودليله على ذلك من نص المادة 119 (سراً اتصل بعلمه بحكم عمله أو وظيفته أو منصبه. وكان صفة السرية قد استمدت من طبيعة العمل أو الوظيفة أو المهنة.

ونحن نخالف الدكتور بوعركي في هذا الرأي لسببين: –

أولاً: أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة مستقرة لدى القاضي الجنائي.

ثانياً: أن الدكتور حسين استند لنص المادة 119 من قانون هيئة أسواق المال وهذا استدلال منقوص لأنه لابد وأن يكون الجاني قد حصل على السر أو اطلع على المعلومات أو الخبر بسبب طبيعة عمله بأن يكون عمله هو الذي أتاح له أو سهل له ذلك.

أما إذا كان الجاني قد حصل على هذه المعلومة أو علم بالسر أو الخبر من مصدر أخر خارج العمل فلا تقوم الجريمة في حقه إذا أفشى أو أذاع ذلك السر أو تلك المعلومات أو نشر الخبر.

الأمر الثاني أنه يلزم أن يكون ما أفشاه الجاني له وصف السر أي أنه كان أمراً غير معلوم للكافة ولا يعلمه سوى الجاني بحكم طبيعة عمله، وأن هذا الأمر من المهم ألا يعلمه أحد أما إذا كان ما أفشاه الجاني لا يتوافر له وصف السر بالمعنى السابق فلا تقوم الجريمة بإفشائه.

إذا فالأمر ليس على إطلاقه هكذا ولا ينبغي أن تؤخذ الأمور على عواهنها… بل لابد من نص ضابط يحكم العلاقة لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

ومما يؤيد هذه الوجهة الصحيحة من النظر.

أنه في إحدى القضايا التي عُرضت على محكمة أسواق المال كان المتهم الأول رئيساً لمجلس إدارة إحدى الشركات والثاني رئيساً لمجلس إدارة شركة أخرى أيضاً وتربطهما علاقة قرابة. وقام المتهمان بإجراء تداولات وإصدار أوامر بيع وشراء على أسهم شركة خاملة تعود ملكيتها للمتهم الأول فقامت النيابة العامة باتهامهما بارتكاب جريمة إفشاء الأسرار المنصوص عليها بالمادة 119 من قانون هيئة أسواق المال.

على أن إفشاء السر وهو توقيت وكمية بيع الأسهم محل الواقعة ولم تتصد محكمة أسواق المال لهذه القضية لصدور صلح من هيئة أسواق المال إلا أن النيابة العامة قامت بتكييف هذه القضية على أنها مجرد اتفاق بين المتهمين على إصدار أوامر بيع أو شراء لأسهم لا ينطبق عليها وصف السر المحمي بموجب المادة 119 وأما في هذه القضية فلا وجود لهذا السر إنما هو اتفاق على ارتكاب جريمة التلاعب بالأسعار وهذا الاتفاق على ارتكاب الجريمة لا يصح وصفه بالسر محل الحماية الجنائية.

أركان وعناصر الجريمة كما هو مستفاد من نص المادة 119 محل الشرح.

يستفاد من نص المادة محل التعليق، أن المشرع استلزم لكي تقوم الجريمة في حق الجاني، وتوقع عليه العقوبة المقررة لها أن يتوافر الركن المفترض في صفة من ارتكب الجريمة، وهو الشخص الذي أتاحت له طبيعة عمله أو وظيفته أو منصبه معرفة السر، إذ إن جريمة إفشاء الأسرار من الجرائم التي لا يمكن أن تقع إلا من شخص معين تتوافر فيه صفة معينة.

أولاً: الركن المادي

1 – يتمثل السلوك المادي لهذه الجريمة في واقعة (إفشاء السر).

2 – ويلزم – كما سلف البيان – أن يكون الجاني علم بالسر بسبب طبيعة عمله أو وظيفته أو منصبه أياً كانت.

ويقصد بالوظيفة: هي تلك الوظيفة التي تخوّل للمفشي اتصاله بالمعلومة. مثال ذلك: كأن يكون موظفاً يعمل لدى هيئة أسواق المال أو كانت طبيعة وظيفته تتيح له الاتصال بالمعلومة.

3 – كذلك أن يكون الجاني من الأشخاص الخاضعين للقانون رقم 7/2010

ومن أمثلة هؤلاء الأشخاص:

أ – أعضاء وموظفو البورصة.

ب – أعضاء وموظفو المقاصة.

ت – الوسطاء ومستشارو الاستثمار.

ث – وكلاء الاكتتاب.

هـ – مدراء أنظمة الاستثمار الجماعي وغيرهم من الأشخاص الذين خاطبهم القانون رقم 7/2010.

وصفوة القول بشأن الركن المادي: أنه يلزم التأكيد على ضرورة أن يكون الجاني قد حصل على السر أو اطلع على المعلومات بسبب طبيعة عمله، بأن يكون عمله هو الذي أتاح له أو سهل له ذلك. ومن ثم فإن كان الجاني قد حصل على هذه المعلومة أو عَلِمَ بالسر من مصدر آخر خارج العمل فلا تقوم الجريمة في حقه إذا أفشى أو أذاع ذلك السر أو تلك المعلومة.

ويلزم أخيراً أن يكون ما أفشاه الجاني له وصف “السر” أي أنه كان أمراً غير معلوم للكافة ولا يعلمه سوى الجاني بحكم طبيعة عمله، وأن هذا الأمر من المهم ألا يعلمه أحد آخر، أما إذا كان ما أفشاه الجاني لا يتوافر له وصف السر بالمعنى السابق فلا تقوم الجريمة بإفشائه.

كما ينبغي أن يُعرف كذلك أن لهذه الجريمة صورتان إحداهما مُشددة والأخرى غير مشددة العقوبة.

ففي الصورة المشددة يشترط ثبوت أن الجاني قد حصل على منفعة أو مصلحة بأي شكل من الأشكال أو مقابل لنفسه أو لغيره مقابل قيامه بإفشاء السر أو المعلومات أو الخبر.

أما في الصورة غير المشددة فإن الجريمة تقوم في حق الجاني طالما أنه قد أفشى السر أو المعلومات أو الخبر حتى ولو لم يتحصل على منفعة أو تحقق مصلحة سواءً لنفسه أو لغيره.

والفارق الذي يميز بين صورتي الجريمة هو تشديد العقوبة في حالة حصول الجاني على منفعة أو تحقيق مصلحة له أو لغيره مقابل قيامه بإفشاء السر أو المعلومات أو ذيوع الخبر.

كذلك ينبغي أن يعرف أن الإفشاء يتطلب أمرين اثنين.

الأول: صدور ونقل السر.

والثاني: ووصول السر للغير.

أما ما يتعلق بمسألة الانتفاع مقابل الإفشاء.

فإن النشاط الإجرامي هنا يتفق مع المنصوص عليه بالفقرة الأولى إلا أنه يستلزم تحقيق نتيجة وهي الحصول على منفعة أو مصلحة أو مقابل لنفسه أو لغيره وهذه المنفعة أو المصلحة لم تحدد شيء معين لذلك فإن أي منفعة يحصل عليها المطلع يشملها النص.

ويلاحظ أن المشرع قال: لنفسه أو لغيره مما يعني أن هذه المصلحة قد تكون لذات الجاني وقد تكون لغيره من الناس كقريب أو صديق.

ثانياً: الركن المعنوي للجريمة وهو القصد الجنائي.

يرى الفقه أن جريمة إفشاء السر جريمة عمدية لا تتحقق بغير اتجاه إرادة الفاعل لارتكابها بأن يعلم بأن المعلومة التي في حوزته تشكل سراً من الأسرار التي يجب عليه الامتناع عن التصرف بها أو استخدامها أو البوح بها لأحد وأن يقصد إيصالها للغير.

فلو تحقق إفشاء السر بأن لم يكن المتهم يعلم بأن المعلومة التي في حوزته سرية فإنه لن يناله التجريم ولو كان الخطأ في أجسم صورة كترك ورقة تحوي السر في مكان يمكن للغير الاطلاع عليها.

وهذا الرأي يرى عدم وقوع جريمة إفشاء الأسرار بالإهمال أي أن إهمال حائز السر وخطأه الجسيم الذي تسبب بإفشاء السر لا يكفيان لإدانته.

وفي تقديري..

أن هذا الرأي محل نظر لأن معظم الأحكام والمبادئ القضائية قد أدانت المتهمين بسبب الإهمال لذلك فإن أنصار القول يتطلب العمدية في جرائم مراقب الحسابات يرون أن الجريمة تقع إذا كان وقوعها ناشئاً عن إهمال.

ويخضع القصد الجنائي في هذه الجريمة للقواعد العامة، فيلزم أن يعلم الجاني بأن ما يفشيه هو سر يحظر عليه إفشاءه، وأن هذا السر قد حصل عليه بسبب عمله أو منصبه أو وظيفته.

وفي حالة الظرف المشدد للجريمة: يجب أن يعلم الجاني أن ما حصل عليه من منفعة سواء لنفسه أو لغيره إنما كان بسبب ما قام به من إفشاء للسر أو المعلومة.

ويرى بعض الشراح: أنه قد يتحقق الركن المعنوي للجريمة بالخطأ غير العمدي ولو لم يكن الجاني قاصداً إفشاء السر فقد يتحقق الإفشاء من جراء إهمال أو رعونة كاتم السر.

لذلك يرى الدكتور الملا أن المشرّع كان عليه أن يفرق بوضوح بين من يفشي السر عمداً ومن يفشيه إهمالاً بأن يجعل ارتكابه الجريمة إفشاء السر عمداً ظرفاً مشدداً.

العقوبة المقررة للجريمة بصورتيها المشددة وغير المشددة وسلطة القاضي في الحكم بها وفي توقيعها على الجاني.

للجريمة الواردة في نص المادة (119) محل التعليق صورتان:

أحداهما ذات ظرف مشدد                                       والأخرى عقوبتها غير مشددة

أما الظرف المشدد: فقد وضعه المشرع على جريمة إفشاء الأسرار في حالة معينة يترتب عليها تشديد العقوبة وهو بثبوت حصول من قام بالإفشاء بأي شكل من الأشكال على منفعة أو مصلحة أو مقابل سواء لنفسه أم لغيره مقابل إفشائه السر أو المعلومة.

أما عن العقوبة المقررة للظرف المشدد فهي:

1 – الحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات.

2 – الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف دينار ولا تزيد على مائة ألف دينار.

3 – أو بإحدى هاتين العقوبتين.

سلطة القاضي في إيقاع هذه العقوبة على الجاني: –

يجب على القاضي وفقاً لنص المادة (128) من القانون ذاته فضلاً عن الحكم بالعقوبة الأصلية، أن يحكم على الجاني بعقوبة تبعية وهي رد قيمة المنفعة المالية التي حققها من وراء ارتكاب الجريمة أو قيمة الخسائر التي تم تجنبها نتيجة ارتكابه الفعل المجرم.

– يجوز للقاضي في حالة الحكم بإدانة المتهم أن يصدر أمراً بحرمانه حرماناً مؤقتاً أو دائماً من العمل كعضو مجلس إدارة أو عضو منتدب أو مدير تنفيذي في شركة مساهمة أو حرمانه من ممارسة مهنته أو أية مهنة مشابهة وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (129) من القانون، ويكون الحرمان المنصوص عليه في الفقرة الأولى السالفة البيان وجوبياً في حالة المتهم العائد.

– يجوز للقاضي أن يعامل المتهم بمنتهى الرأفة، وذلك وفقاً لما تقضي به المادة (130) من القانون ذاته.

فوفقاً للفقرة الأولى من النص يجوز للقاضي أن ينزل بالحد الأدنى لعقوبة الحبس التي يقضي بها وذلك دون التقيد بالحد الأدنى الذي نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (83) من قانون الجزاء.

ووفقاً للفقرة الثانية من المادة (130) يجوز للقاضي أن يأمر بوقف تنفيذ الحكم في الأحوال المنصوص عليها في المادة (82) من قانون الجزاء وأياً كانت العقوبة المقضي بها، وسواء أكانت عقوبة الحبس أو عقوبة الغرامة وأياً كان مقدار العقوبة.

يجوز للهيئة قبول الصلح مع المتهم في أية مرحلة تكون عليها الدعوى وحتى صدور حكم بات فيها، وذلك وفق القواعد والإجراءات المنصوص عليها في المادة (131).

أما عن العقوبة غير المشددة

فتكون العقوبة كالتالي:

1 – عقوبة الحبس الذي لا تتجاوز مدته سنة.

2 – عقوبة الغرامة التي لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار، ولا تزيد على عشرة آلاف دينار.

 3 – الحبس والغرامة معاً أو بإحدى هاتين العقوبتين.

نظرة تحليلية ختامية:

وواضح هنا أن المشرع اعتبر جريمة الانتفاع نظير إفشاء الأسرار من قبيل الجنح إلا أن إدانة الجاني بهذه الجريمة يترتب عليها في حالة القضاء بالغرامة أن يكون هناك حد أدنى للغرامة لا تقل عن عشرة آلاف دينار.

وفي المقال القادم – بإذن الله – سنتعرض لجريمة مخالفة أحكام الاستحواذ.

د. جلال سعد عثمان

المستشار القانوني بدولة الكويت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى