مقالات

الديون العالمية في 2025: مؤشرات إنذار في ظل تفاقم الحرب التجارية والسياسات الضبابية

أولًا: المخاطر المستقبلية لتراكم الديون

إن استمرار تصاعد الدين العالمي يضع النظام المالي الدولي أمام معضلة تتعلق باستدامة التمويل السيادي. فمع تجاوز إجمالي الديون 324 تريليون دولار بحسب تقرير معهد التمويل الدولي الصادر في مايو 2025، يصبح الضغط على ميزانيات الدول أمرًا لا مفر منه، لا سيما مع توقعات بارتفاع أسعار الفائدة عالميًا كرد فعل طبيعي لمواجهة التضخم.

ويشير التقرير إلى أن الدين العالمي ارتفع بنحو 7.5 تريليونات دولار في الربع الأول فقط من عام 2025، وهي زيادة تفوق أربعة أضعاف المتوسط الفصلي منذ نهاية 2022. وقد ساهمت الصين وفرنسا وألمانيا بنصيب كبير من هذه الزيادة، بينما سجلت دول مثل كندا والإمارات وتركيا بعض التراجع في مستويات الديون.

في هذا السياق، من المتوقع أن ترتفع تكاليف خدمة الدين، مما يقيّد قدرة الحكومات على الإنفاق الإنتاجي ويجبرها على إعادة ترتيب أولوياتها المالية. ويشكل العبء التراكمي تهديدًا حقيقيًا لقدرة الدول على الاستجابة للأزمات المفاجئة، سواء كانت صحية أو بيئية أو جيوسياسية، كما ظهر جليًا خلال جائحة كورونا.

كما أن الديون المقومة بالدولار الأميركي تفرض مخاطر مزدوجة على الاقتصادات النامية، لا سيما في حال تشديد السياسة النقدية الأميركية أو تراجع العملات المحلية، مما يعيد إلى الأذهان أزمات سابقة كأزمة أمريكا اللاتينية في الثمانينيات.

 

ثانيًا: تحديات السياسات النقدية

مع الارتفاع المتسارع في الديون، تصبح البنوك المركزية مقيدة في قدرتها على استخدام أدوات السياسة النقدية بحرية. ففي الاقتصادات المتقدمة، مثل الولايات المتحدة، يؤدي التوسع الكبير في إصدار سندات الخزانة إلى ضغوط تصاعدية على عوائد السندات، ما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة النظر في وتيرة رفع أسعار الفائدة.

تقرير معهد التمويل الدولي يشير إلى أن هذا التوسع الكبير في المعروض من السندات الأميركية قد يؤدي إلى زيادة حادة في النفقات الحكومية بسبب الفوائد، ما يرفع من مخاطر التضخم بشكل كبير. وتعتبر إدارة ترامب أن الرسوم الجمركية وسيلة لتعويض الانخفاض المتوقع في العوائد الحكومية الناجم عن خفض الضرائب، إلا أن الضبابية في السياسات التجارية تُضعف الثقة وتبطئ استثمارات الشركات، ما ينعكس سلبًا على النمو الأميركي والعالمي.

أما في الأسواق الناشئة، فإن التحديات أكثر تعقيدًا، حيث تفتقر معظمها إلى هامش مناورة نقدي. وقد تجد هذه الدول نفسها مضطرة إلى رفع أسعار الفائدة لحماية عملاتها ومنع هروب رؤوس الأموال، حتى وإن جاء ذلك على حساب النمو.

 

ثالثًا: انعكاسات الدين على الاقتصادات النامية

تشير بيانات المعهد إلى أن الأسواق الناشئة تواجه ما يقارب 7 تريليونات دولار من استحقاقات السندات والقروض خلال ما تبقى من 2025 – وهو رقم غير مسبوق يعكس الهشاشة التمويلية المتزايدة. وقد بلغ إجمالي ديون هذه الأسواق أكثر من 106 تريليونات دولار، منها أكثر من تريليوني دولار من الصين وحدها.

وعلى الرغم من أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي في الأسواق الناشئة (باستثناء الصين) انخفضت إلى أقل من 180%، فإن الزيادة في القيم الاسمية تعكس تصاعد الاعتماد على التمويل الخارجي، خاصة في دول مثل البرازيل والهند وبولندا.

ويضيف التقرير أن تراجع الدولار الأميركي ساعد نسبيًا في تخفيف الصدمة على هذه الاقتصادات، إلا أن التأثيرات الناجمة عن الحرب التجارية، وعدم وضوح السياسات الأميركية، يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي، ويقلص من هامش المناورة أمام الدول النامية.

 

خاتمة: نحو استراتيجية دولية لإدارة الدين

في ضوء ما تقدم، أصبح من الضروري التفكير في إطار دولي شامل لإدارة الدين العالمي، يضمن التنسيق بين السياسات النقدية والمالية، ويُعيد النظر في أدوار المؤسسات متعددة الأطراف، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خصوصًا في ما يتعلق بتوفير أدوات تمويل مستدامة وآليات فعّالة لإعادة هيكلة الديون.

إن الأرقام التي كشف عنها تقرير معهد التمويل الدولي، جنبًا إلى جنب مع تصاعد التوترات التجارية وضبابية السياسات الاقتصادية، تشير إلى أن العالم بات يقف على حافة أزمة ديون محتملة. وإذا لم يتم احتواؤها ضمن إطار عالمي متكامل، فإن الدين العالمي سيظل قنبلة موقوتة تهدد النمو والاستقرار لعقد قادم بأكمله، وتُقوّض فرص التنمية الشاملة والمستدامة.

د. محمد جميل الشبشيري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى