أوكرانيا – موسكو… استنزاف اقتصادي… من سينهار أولاً ويدفع الثمن الأغلى؟

بقلم – ليما راشد الملا
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية عام 2022، دخل الاقتصاد الروسي في مرحلة استثنائية يمكن وصفها بـ”اقتصاد الحرب”. فبينما كانت التوقعات الغربية أن العقوبات غير المسبوقة ستقود إلى انهيار سريع في الداخل الروسي، أظهر الكرملين قدرة ملحوظة على امتصاص الصدمات، عبر توجيه الموارد نحو الإنفاق العسكري، وإعادة ترتيب العلاقات التجارية مع شركاء جدد في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لكن هذا الصمود، رغم أهميته على المدى القصير، يخفي تحت السطح ضغوطًا هيكلية قد تدفع روسيا إلى مأزق اقتصادي عميق إذا استمرت الحرب لفترة أطول.
الإنفاق العسكري… نمو حقيقي أم فقاعة زمن الحرب؟
الاقتصاد الروسي حقق نموًا مفاجئًا في 2023 و2024 وصل إلى 4% تقريبًا، مدفوعًا بزيادة الإنفاق الحكومي على الدفاع وتوسع الصناعات العسكرية ، ففي عام 2025، خُصص ما يقارب 17 تريليون روبل للإنفاق العسكري، وهو ما يمثل نحو 41% من إجمالي الميزانية الفدرالية. هذا الإنفاق الهائل ساعد على تشغيل المصانع وتوفير وظائف، لكنه في المقابل قلّص الموارد المتاحة لقطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. ومع استمرار الحرب، يتحول النمو الاقتصادي الروسي إلى نمو قائم على التسلح أكثر من كونه ناتجًا عن استثمارات منتجة طويلة الأمد، ما يضعف فرص الاستدامة.
العقوبات الغربية… خنق حقيقي أم مجرد ضغط مؤقت على موسكو؟
العقوبات الأوروبية والأميركية، التي طالت البنوك والطاقة والتكنولوجيا، أجبرت موسكو على البحث عن بدائل. ومع ذلك، استمرت العراقيل دون حل: انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة، صعوبة الحصول على تكنولوجيا متقدمة، وتراجع القدرة على تحديث القطاع الصناعي. العقوبات الأخيرة شملت حتى “الأسطول الخفي” الذي تنقل عبره روسيا نفطها عبر مسارات من شأنها أن تزيد كلفة تصريفه في الأسواق العالمية. وبالرغم من أن روسيا نجحت في تصدير النفط إلى الصين والهند بخصومات كبيرة، فإن الإيرادات لم تعد بنفس القوة السابقة، خصوصًا بعد خفض سقف سعر النفط الروسي إلى ما دون 50 دولارًا للبرميل من قبل الاتحاد الأوروبي.
هل تكفي المساعدات لإنقاذ أوكرانيا من الانهيار الاقتصادي؟
على الجانب الآخر، تعيش أوكرانيا اقتصادًا منهكًا. البنية التحتية تضررت و تعرّضت لتدمير واسع، والصناعات الثقيلة تراجعت، في الوقت الذي استمر فيه الاقتصاد معتمدًا على الدعم الخارجي، سواء من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو المؤسسات المالية الدولية. هذا الدعم ساعد على إبقاء الدولة واقفة، لكنه لم يمنع انهيارًا جزئيًا في مستويات المعيشة وزيادة الاعتماد على القروض والمساعدات. استمرار الحرب يعني أن أوكرانيا ستظل في دائرة الاقتصاد الطارئ، غير القادر على الاستثمار طويل الأجل، بل منصب على الترميم الفوري وتغطية نفقات الدفاع.
إلى أي حد يمكن لأوروبا الموازنة بين دعم أوكرانيا وأعباء اقتصادها الداخلي؟
في الجهة المقابلة، تتحمل أوروبا تكاليف ضخمة. صحيح أنها قلصت اعتمادها على الغاز الروسي، إلا أن ذلك جاء على حساب ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع تنافسية الصناعات الثقيلة، خاصة في ألمانيا. كما أن الإنفاق المستمر على دعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا بات يشكّل ضغطًا على ميزانيات الدول الأوروبية. وإذا استمرت الحرب، فإن الاتحاد الأوروبي سيواجه معضلة مزدوجة: دعم أوكرانيا مع مواجهة أصوات داخلية متصاعدة تشكو من ارتفاع التضخم والبطالة وتراجع مستوى المعيشة.
هل يهدد نقص العمالة وهجرة العقول مستقبل الاقتصاد الروسي؟
واحدة من أهم آثار الحروب إجمالاً وروسيا ليست ستثناء فعلى صعيد تلك الأثار يمكن الإشارة إلى ا الهجرة المتزايدة للشباب والكفاءات، سواء بسبب التعبئة الجزئية أو بسبب الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة. هذا النزيف البشري يهدد مستقبل الاقتصاد الروسي على المدى الطويل، لأنه يضعف القدرة على الابتكار ويقلص حجم القوة العاملة المؤهلة. يضاف إلى ذلك التضخم الذي يتراوح بين 6% و9%، ما يضغط على القدرة الشرائية للمواطنين ويزيد من التداعيات الاجتماعية، رغم محاولات الحكومة تعويض ذلك عبر الدعم والزيادات في الرواتب العسكرية.
هل كييف الهدف الحقيقي أم مجرد بداية لطموحات أوسع؟
السؤال المركزي الذي يشغل العواصم الغربية لا يتعلق فقط بمصير أوكرانيا، بل بما هو مستهدف . المؤشرات تدل على أن الهدف يتجاوز السيطرة على بعض الأراضي الأوكرانية، إلى محاولة إعادة رسم التوازنات الدولية وفرض روسيا كقوة لا يمكن تجاهلها. استخدام الحرب الاقتصادية كسلاح يبدو جزءًا من هذه الاستراتيجية.
وأخيرًا… من سيدفع الثمن الأكبر في هذه الحرب الاقتصادية؟
الاقتصاد الروسي والأوكرانني يقفان اليوم أمام مفارقة معقدة: فمن جهة، لا يزال هناك تحدي على مواصلة الصموده خصوصاً في روسيا مستندًا إلى عوائد الطاقة والإنفاق العسكري الضخم، لكنه في المقابل يتعرض لتحدي داخلي واضح نتيجة العقوبات، مثل ضعف الاستثمارات، ونزيف الكفاءات البشرية. أما أوكرانيا، فهي عالقة في اقتصاد هش يعيش على المساعدات والدعم الخارجي، فيما تجد أوروبا نفسها مجبرة على دفع فاتورة حرب طويلة الأمد، تُثقل صناعاتها وتستنزف ميزانياتها.
هكذا لم تعد الحرب مجرد مواجهة عسكرية على الأرض، بل تحولت إلى معركة اقتصادية واسعة تُعيد رسم التوازنات الدولية وتفرض واقعًا جديدًا على الجميع. لكن يبقى السؤال الجدلي: هل ستكون روسيا هي الخاسر الأكبر، أم أن أوروبا وأوكرانيا سيدفعون الثمن الأغلى في نهاية المطاف؟