الفيدرالي يثبت سعر الفائدة ويستمر في المواجهة

في قلب العاصمة واشنطن، حيث تُصنع القرارات التي تؤثر على حياة الملايين حول العالم، تدور رحى معركة غير معلنة بين رجلين يمسكان بزمام أقوى اقتصاد في العالم: الرئيس دونالد ترامب، وجيروم باول، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي. هذه ليست مجرد خلافات سياسية، بل هي صراع يحدد مسار أموالك، وظيفتك، ومستقبل الاقتصاد العالمي.
1- شرارة المواجهة: زيارة تفقدية تتحول إلى اتهامات علنية
في أواخر شهر يوليو من عام 2025، قام الرئيس ترامب بزيارة لمشروع ضخم لتجديد مباني الاحتياطي الفيدرالي، وهو مشروع تاريخي تصل تكلفته إلى 2.5 مليار دولار. لكن ما كان يفترض أن يكون جولة بروتوكولية، سرعان ما تحول إلى منصة لهجوم مباشر.
أمام عدسات الكاميرات، انتقد ترامب ما وصفه بـ “سوء الإدارة” وتضخم التكاليف، في رسالة واضحة لم تكن موجهة للمقاولين، بل لـ “جاي باول” نفسه. كان ترامب يمارس ضغوطه المعتادة، مطالبًا بخفض أسعار الفائدة بشكل أسرع وأكبر لتعزيز النمو الاقتصادي قبل الانتخابات.
من جهته، رد بنك الاحتياطي الفيدرالي بهدوء، ولكن بحزم، موضحًا أن زيادة التكلفة لم تكن مفاجئة. فالعمل في مبانٍ عمرها قرن من الزمان كشف عن ضرورة إزالة كميات هائلة من مادة “الأسبستوس” الخطرة، بالإضافة إلى الارتفاع العالمي في أسعار المواد الخام وأجور العمال. كان ردهم يعني: “نحن نجدد التاريخ، وهذا له ثمنه”.
2- استقلالية الفيدرالي في مهب الريح
منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، أصبحت استقلالية البنوك المركزية ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي. هذه الاستقلالية تمنحها درعًا يحميها من الضغوط السياسية قصيرة المدى، لتتمكن من اتخاذ قرارات صعبة مثل رفع الفائدة لكبح التضخم، حتى لو لم تكن شعبية.
تهديدات ترامب العلنية، وتلميحاته بإمكانية عزل باول من منصبه، اعتبرها الخبراء والمستثمرون ضربة مباشرة في قلب هذه الاستقلالية. ومع احتمالات تسجيل أصوات معارضة داخل مجلس المحافظين لأول مرة منذ عقود، تساءلت الأسواق: هل سيصمد الفيدرالي أم سيرضخ للضغوط؟
3- قرار يوليو الحاسم: ثبات رغم الانقسام
بعد أيام قليلة من هذه المواجهة، عقد الفيدرالي اجتماعه المنتظر يومي 29 و30 يوليو 2025. وكما توقعت الأسواق بنسبة 95%، أبقى البنك على أسعار الفائدة في نطاق 4.25%–4.50%، مسجلًا بذلك الاجتماع الخامس على التوالي دون خفض.
بيان الفيدرالي ونبرة المؤتمر الصحفي لجيروم باول كشفا عن مزيج من الحذر والانقسام:
* النمو الاقتصادي: البيانات الأولية للناتج المحلي الإجمالي أظهرت انتعاشًا في الربع الثاني بنسبة 2.4% بعد انكماش 0.5% في الربع الأول، لكن هذا التحسن جاء مدفوعًا جزئيًا بعوامل تجارية مؤقتة. التوقعات تشير إلى تباطؤ النمو إلى 1.5% بنهاية العام مع بدء تأثير الرسوم الجمركية في التغلغل بالاقتصاد.
* سوق العمل: رغم انخفاض البطالة، بدأت علامات الضعف تظهر. تقرير JOLTS أظهر تراجعًا في الوظائف الشاغرة والتعيينات، وانخفاض معدل الاستقالات، فيما أشار مسح ثقة المستهلك إلى أضعف تقييم لتوافر الوظائف منذ 4.5 سنوات.
* التضخم: لا يزال أعلى من المستهدف، مع مخاوف من أن الرسوم الجمركية الأخيرة قد تدفع الأسعار إلى الارتفاع لفترة أطول.
المفاجأة الأبرز كانت تصويت عضوين من مجلس المحافظين لصالح خفض الفائدة، وهما كريستوفر والر وميشيل بومان، في أول حالة تشهد أكثر من صوت معارض منذ 1993. هذا الانقسام يعكس الصراع داخل الفيدرالي بين من يرى ضرورة التحرك فورًا لدعم الاقتصاد، ومن يفضل التريث حتى تتضح آثار السياسة التجارية والتضخم.
4- ثلاثة سيناريوهات لمستقبل أسعار الفائدة حتى نهاية 2025
المحللون يرسمون ثلاث مسارات محتملة:
1- السيناريو الأكثر ترجيحًا (55%) – الخفض التدريجي: خفضان للفائدة بواقع 0.25%، الأول في سبتمبر والثاني في ديسمبر، إذا تباطأ النمو وتراجع التضخم نحو 2.5% وارتفعت البطالة فوق 4.2%.
2- السيناريو الثاني (35%) – الثبات: لا تغيير حتى بداية 2026 إذا ظل التضخم فوق 3% وسوق العمل قويًا.
3- السيناريو الأقل ترجيحًا (10%) – الخفض السريع: خفض 0.50% في سبتمبر إذا حدث تدهور حاد ومفاجئ أو أزمة مالية.
5- كيف يؤثر كل هذا على أموالك؟
* الأسهم: الخفض التدريجي يصب في مصلحة أسهم التكنولوجيا والشركات سريعة النمو، بينما الثبات قد يبطئ الزخم.
* الدولار: الخفض يضعفه، مما يدعم الصادرات ويرفع كلفة الواردات، بينما الثبات يعزز قوته.
* السندات: الخفض يجعل السندات الحكومية أكثر جاذبية، ما يرفع أسعارها ويخفض عوائدها.
خاتمة: السير على حبل مشدود
المواجهة بين ترامب وباول ليست مجرد دراما سياسية، بل هي انعكاس للتوازن الحساس الذي يسير عليه الاقتصاد الأمريكي. الفيدرالي اليوم يحاول الموازنة بين السيطرة على التضخم ومنع الاقتصاد من الانزلاق نحو الركود، في ظل ضغوط سياسية متزايدة وانقسام داخلي نادر. القرارات المقبلة في سبتمبر وديسمبر لن تحدد فقط مصير أكبر اقتصاد في العالم، بل سترسم ملامح النظام المالي العالمي لسنوات قادمة.
توصيات للمستثمرين: أين تضع أموالك في ظل هذا المشهد؟
مع ترجيح استئناف الفيدرالي لسياسة التيسير النقدي اعتبارًا من سبتمبر، وخفض أسعار الفائدة بمقدار يصل إلى 100 نقطة أساس خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة، ينصح الخبراء المستثمرين بالتركيز على:
* السندات متوسطة الأجل عالية الجودة (High Grade): توفر عائدًا مستقرًا في بيئة تتجه نحو خفض الفائدة، مع تقليل مخاطر تقلب الأسعار.
* السندات الاستثمارية (Investment Grade): تمنح دخلًا ثابتًا ومستدامًا للمحافظ الاستثمارية، خاصة مع ارتفاع الإقبال عليها في فترات تراجع العوائد على الأصول الأخرى.
* تنويع الأصول: الموازنة بين الأسهم الدفاعية، والأدوات ذات الدخل الثابت، والاحتفاظ بسيولة جاهزة لاقتناص الفرص في حال حدوث تقلبات حادة.
هذه الاستراتيجية قد تساعد المستثمرين على تحقيق توازن بين العائد والمخاطرة، وتوفير دخل أكثر استدامة في ظل بيئة اقتصادية وسياسية غير مستقرة.