
ربما يعتقد البعض أن المحتال مادوف هو الأعظم في التاريخ، والكثير يمكن أن يمنحه هذه الصفة نظراً لحجم المبلغ الضخم محل الاحتيال والبالغ نحو 50 مليار دولار.
لكن في حقيقة الأمر هناك من هو أبرع من مادوف وأسوأ منه ممارسة، فالبعض من الضحايا ربما مبلغ ألف دولار أو ألفين يؤلمه أكثر ما يؤلم آخر مليون دولار أو عشرات الملايين، الأمر ليس محكوم بالأصفار وعدد الملايين، بل بحجم التأثير على المبتلى في أمواله، والمعتدى عليه من أصحاب الأفواه المسعورة وأصحاب القلوب الميتة، وآكلي السحت وناهبي الأموال وآكلي الأخضر واليابس.
(سفاح الأسهم) والأربعين حرامي من حوله، الفتى دوحا، وحامل المزمار “لولا”، وفرقة الأورج والعود والمزمار، ومؤلفي الأشعار ومطربي قصائد المدح، وموزعي الألحان ومحددي الأدوار، وباقي خدم فرقة التضليل، اتضح في نهاية المطاف أن بنيانهم على “شفا جرف هارٍ”، وبإذن العليم القدير سينهارون وسيلتقون جميعاً في نار جهنم، ليلوم كل منهم الآخر على ما اقترفوه في حق العزل من أصحاب المبالغ الصغيرة والضئيلة، الذين منحوهم الثقة وهم في الواقع كانوا وقود لمحرقة كبيرة ومذبحة لا تضاهيها مذبحة في التاريخ، لما لا وهم من حسروا الآلاف على أموالهم التي تم تبخيرها وتطيرها هباءً منثوراً تدريجياً وأمام أعينهم كطبيب يستأصل أعضاء جريح وهو يقظ دون تخدير.
الغريب أنهم يتطاولون ويتبجحون وكأنهم لم يرتكبوا أي إثم، أو يعتدوا على أموال وحرمة الآلاف، بينما تمتلئ حساباتهم وأرصدتهم وخزائنهم بالملايين وبالعملات المختلفة.
لكن هل يمحوا التاريخ والزمن هذه الجرائم؟ كلا وألف كلا، فجرائم النهب والسطو وتبديد أموال الآخرين والتدليس والإفساد والتلاعب فيها، من الجرائم التي لا تمحى مهما طال الزمن، حيث تبقى سيرة تروى لأجيال متعاقبة، ويتحول هؤلاء اللصوص مضرباً للمثل.
كم “محتال” فارق الدنيا، وسيرته الملوثة لم تفارق، بل تتردد وتحكى وتعاد مثل الأغاني الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان.
أمام محرقة الأموال الأكبر في التاريخ الحديث يقول أحد المتضررين، يكفينا أنهم مدانون على رؤوس الأشهاد، وسمعتهم ملوثة لا يمكن تنقيتها أو تطهيرها أو تجميلها، أو عودتهم إلى المجتمع مرفوعي الرأس، بل يمشون متخفيين كما اللصوص يتلفتون حولهم، يكفينا أنهم أحياء أموات، يتجنبون التجمعات والمناسبات، فالأعين تلاحقهم، وهذا الجلد المجتمعي أقسى وقعاً وأكثر ألماً من الإعدام، كما لو يتم رجمهم وهم أحياء.
عار جرائمهم ينتقل إلى الأبناء والأحفاد ويستمر لأجيال، حتى تتحول إلى لقب بين الأوساط البشرية في بعض الأحيان.
العبرة أن كل “محتال” مات وهو حي وأمات معه سلالاته ونسله وفرقة العازفين وجميع من اشترك معهم في “حفلة” النهب، هكذا يلاحق العار الجميع، وكل من انتمى لكيانات تم بناؤها من “رمل” على شواطئ ذات أمواج عالية عاتية، والشواهد خير دليل، فكم من قيادي يحاول أن يقدم نفسه ويلفظه الجميع بسبب بصماته السلبية السابقة وتاريخه المظلم وعضويته في محرق الأموال.
هل سيتعظ أحد ممن يحاولون إعادة إنتاج الفيلم من جديد، ويقرأون التاريخ جيداً قبل الشروع في تشغيل الفيلم بنفس آليات وأسس ومنهج الممثلين والكومبارس الماضيين؟ كم من شركات شطبت، وشركات توارت عن الأنظار، وشركات تحت الإفلاس من سنوات طويلة، وشركات يسجلون الأصول بأسماء أعضاء مجلس الإدارة والحبل على الجرار.