مقالات

2026: نمو متين وفرص انتقائية في ظل تحديات عالمية

 

مع مطلع عام 2026، يتجه الاقتصاد العالمي نحو مرحلة من الاستقرار النسبي، متعافيًا من سلسلة الصدمات المتتالية التي شهدها، بدءًا من الجائحة مروراً بالتشديد النقدي وصولاً إلى التوترات الجيوسياسية. ورغم تباطؤ وتيرة النمو، فإنه يكتسب صلابة أكبر واستدامة أوضح، مع استمرار التحدي المتمثل في محدودية خلق فرص العمل مقارنة بالمستويات التاريخية. وتتوقع مؤسسات رائدة، مثل غولدمان ساكس، أن يسجل النمو العالمي معدلاً يقارب 2.8%، مدعوماً بتحولات هيكلية تشمل إعادة ترتيب سلاسل الإمداد وتصاعد النزعات الحمائية في السياسات الصناعية والتجارية.

الولايات المتحدة: القاطرة الأساسية للنمو والتحولات التجارية

يدخل الاقتصاد الأمريكي عام 2026 وهو عالق بين الصمود والضغوط المتصاعدة، لكنه لا يزال يحتفظ بدوره كقاطرة رئيسية للنمو العالمي مدعومًا باستمرار الدعم المالي وتخفيف الأعباء الضريبية؛ إذ يُتوقع أن تضخ التخفيضات الضريبية نحو 100 مليار دولار إضافية في دخول الأسر خلال النصف الأول من العام، بما يعزز الاستهلاك والنشاط الاقتصادي. غير أن هذا الزخم يتعايش مع تحديات بنيوية، في مقدمتها تصاعد الرسوم الجمركية والطعون القانونية المرتبطة بها، واحتمالات فرض رسوم قطاعية جديدة ومراجعة اتفاقية التجارة الثلاثية (CUSMA)، وهي عوامل تضغط على ثقة الأعمال والاستثمارات العالمية وترفع مخاطر التضخم، خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2026.

ويعتمد النمو بدرجة متزايدة على الذكاء الاصطناعي، إذ ارتبط أكثر من 90% من نمو الناتج المحلي الحقيقي في النصف الأول من 2025 باستثمارات هذا القطاع، ما يمنح الاقتصاد دفعة قوية لكنه يكشف في الوقت ذاته عن هشاشته أمام أي تباطؤ في وتيرة الابتكار أو تحوّل ازدهار الذكاء الاصطناعي إلى فقاعة. ويزداد المشهد تعقيدًا مع احتمالات توزيع «عائدات الرسوم» المكلفة ماليًا، وتغيير قيادة الاحتياطي الفيدرالي بما يختبر استقلال السياسة النقدية، فضلًا عن ضغوط كلفة المعيشة ومخاطر الجغرافيا السياسية. وبين هذه العوامل المتشابكة، يبدو 2026 عامًا غنيًا بالفرص والمخاطر دون انزلاق واضح نحو ازدهار مفرط أو ركود وشيك.

الصين وأوروبا: تباينات هيكلية

تقدم الصين صورة اقتصادية مزدوجة: فمن جهة، يدعم النمو القوي في الصادرات الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى نحو 4.8%، ومن جهة أخرى، يستمر الضعف في الطلب المحلي بسبب أزمة القطاع العقاري، مما يقتطع نحو 1.5 نقطة مئوية من النمو الإجمالي.

أما أوروبا، فتظل الحلقة الأضعف في المشهد العالمي، متأثرة بارتفاع مستمر في أسعار الطاقة، وتعقيدات تنظيمية، واعتمادها الكبير على التجارة الخارجية. ومن المتوقع أن يزيد الإنفاق الدفاعي المحتمل، نتيجة للنزاع في أوكرانيا، من الضغوط المالية على دول القارة.

الأسواق الناشئة: صعود الهند والفرص النوعية

تواصل الهند ترسيخ مكانتها كقوة دافعة للنمو البديل، مدعومة بقوة الاستهلاك المحلي والاستثمار المكثف في البنية التحتية الرقمية. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تبرز برامج التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي، موفرة فرصًا نوعية في قطاعات السياحة والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية. ومع ذلك، يظل نجاح هذه البرامج مرهونًا باستمرار الاستقرار الجيوسياسي وتقلبات أسعار الطاقة.

التضخم والسياسة النقدية: توازن دقيق

يتجه التضخم في الاقتصادات المتقدمة نحو مستويات قابلة للإدارة، مما يفتح الباب أمام تخفيض تدريجي لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة، مع تجنب العودة إلى التيسير النقدي المفرط. ومع ذلك، يظل هذا التوازن دقيقاً وهشاً: فالارتفاع القياسي في الصادرات الصينية قد يفرض ضغوطًا هبوطية على الأسعار عالميًا، بينما قد تؤدي التعريفات الجمركية وإعادة توطين الصناعات إلى ارتفاع التضخم في قطاعات محددة. كما يضيف الاستثمار في التحول الأخضر ضغطًا مزدوجًا: زيادة الطلب على المعادن الصناعية على المدى القصير، مقابل رفع الكفاءة الطاقية على المدى الطويل.

الديون: ضغط متزايد على الحكومات وأسواق المال

تستمر الاقتصادات المتقدمة في تسجيل عجز عام متزايد وإصدار المزيد من الديون لمواجهة عالم يتسم بعدم يقين متصاعد. من المتوقع أن تسجل الحكومة الفيدرالية الأمريكية عجزًا سنوياً يتراوح بين 5% و7% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد القادم، مما يدفع الدين العام إلى 135% من الناتج بحلول عام 2035. هذا التراكم للديون، إلى جانب السياسات المؤيدة للتضخم، يرفع من عوائد السندات طويلة الأجل، ويؤثر بالمثل على منحنيات العائد في دول أخرى، مما يجعل أسواق الدخل الثابت أكثر حساسية ويتطلب إدارة نشطة ومحترفة.

السندات وأسعار الفائدة: تقلبات هيكلية

على الرغم من التوقعات بتخفيضات في أسعار الفائدة، ستظل أسواق السندات شديدة التقلب. ومن المتوقع أن تنخفض عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات تدريجيًا، لكن حجم التمويل الحكومي الكبير سيشكل حاجزاً أمام أي انهيار سريع في العوائد، مما يجعل منحنى العائد حساسًا للغاية لأي بيانات اقتصادية مفاجئة.

أسواق الأسهم: صعود معتدل واتساع قاعدة المكاسب

بعد أربع سنوات من المكاسب المتتالية، لا تزال التقييمات مرتفعة في السوق الأمريكية. وتشير التوقعات إلى أن مؤشر S&P 500  سيصل إلى نطاق 7,500–7,600 نقطة بنهاية عام 2026، مسجلاً زيادة تتراوح بين 7% و8% عن مستويات نهاية 2025. السمة الأبرز لهذا العام هي اتساع قاعدة الصعود لتشمل قطاعات أوسع مثل الصناعة والمال والخدمات، مع بدء تحويل مكاسب الإنتاجية—وخاصة تلك الناجمة عن الذكاء الاصطناعي—إلى أرباح فعلية وملموسة.

السلع والطاقة: ضغوط سعرية متباينة

من المتوقع أن تظل أسعار النفط معتدلة مع ميل نسبي للهبوط، نتيجة لوفرة المعروض وتحسن الكفاءة الطاقية. وتتباين التوقعات السعرية: فبينما يضع غولدمان ساكس وجيه بي مورغان السعر عند 58 دولارًا للبرميل، تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية 66 دولارًا، وتشير الوكالة الدولية للطاقة إلى نطاق متقلب.

أما الذهب، فبعد تجاوز 4,000 دولار للأونصة في 2025، تتراوح توقعاته لعام 2026 بين 3,500–3,700 دولار وقد تصل إلى 4,500 دولار، مدعومًا بالطلب التحوطي ومشتريات البنوك المركزية. وتظل المعادن الصناعية، خاصة النحاس والألمنيوم، مرتبطة بشكل وثيق بالاستثمارات في الطاقة النظيفة والبنية التحتية والذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي: من الاستثمار إلى تعظيم الأرباح

يمثل عام 2026 نقطة تحول محورية للذكاء الاصطناعي، حيث يتحول التركيز من مرحلة الاستثمار المكثف إلى تعظيم الأرباح التشغيلية. وتشير أبحاث غولدمان ساكس إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يزيد أرباح شركات S&P 500 بنسبة تتراوح بين 11% و23%، مع استفادة واضحة للقطاعات المالية والصناعية والتكنولوجية. يجب أن ينصب التركيز على الشركات التي تدمج الذكاء الاصطناعي بشكل عملي وملموس في صميم عملياتها لتحقيق الكفاءة وخفض التكاليف.

المخاطر الرئيسية

تظل المخاطر قائمة، وأبرزها:

* تصاعد التوترات الجيوسياسية.

* عودة النزعات الحمائية.

* ضعف سوق العمل مقارنة بمسار النمو.

* سوء تقدير توقيت خفض الفائدة.

* تضخم غير متوقع ناتج عن تكاليف التحول الأخضر والتكنولوجيا.

* ارتفاع مفاجئ في أسعار الطاقة.

الخلاصة: عام الفرص الانتقائية

عام 2026 هو عام النمو المتين والفرص الانتقائية، وليس عام الرهانات الواسعة. البيئة الاقتصادية الجديدة تكافئ: التنويع الذكي للأصول، والإدارة النشطة للمحافظ الاستثمارية، والتركيز على الشركات القادرة على تحويل الابتكار—وخاصة الذكاء الاصطناعي—إلى أرباح مستدامة. ومع تراجع وهم النمو السريع الشامل، تتاح فرصة حقيقية لبناء استراتيجيات متوازنة للاستفادة من عالم يتغير ببطء ولكن بثبات، مع مراعاة تأثير التجارة العالمية والديون الحكومية المتزايدة على الأسواق والاستثمارات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى