مقالات

سوق الإسكان الأميركي… تحولات ديموغرافية

 

يشهد سوق الإسكان الأميركي مرحلة مفصلية تتشابك فيها التغيرات الديموغرافية الكبرى مع الضغوط الاقتصادية المتزايدة، مما يخلق مشهدًا معقدًا لكنه غني بالفرص الاستثمارية. فمع وصول جيل الألفية إلى ذروة سنوات تكوين الأسر، ودخول جيل زد إلى سوق الإيجار، وتزايد احتياجات جيل البومر المتقدم في السن إلى مساكن متخصصة، تتضح الحاجة الملحة لإعادة تقييم ديناميكيات هذا السوق الحيوي.

1- ديناميكيات الطلب على الإسكان ونمو الأسر

تُشير التوقعات الصادرة عن مركز دراسات الإسكان المشترك بجامعة هارفارد (JCHS) إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى إضافة حوالي 8.6 مليون أسرة جديدة، بمعدل 860,000 أسرة سنويًا، بين عامي 2025 و2035. ورغم أن هذا الرقم يعكس تباطؤًا في معدل النمو مقارنة بالعقود الماضية، إلا أنه لا يزال يمثل طلبًا كبيرًا على الوحدات السكنية. ومن المتوقع أن يستمر هذا التباطؤ، حيث يُقدر نمو الأسر بنحو 5.1 مليون أسرة فقط بين عامي 2035 و2045.

تُعد التركيبة السكانية المتغيرة محركًا رئيسيًا لهذا الطلب. فخلال العقد القادم، ستشهد الولايات المتحدة زيادة ملحوظة في عدد الأسر التي يرأسها أفراد تزيد أعمارهم عن 80 عامًا، حيث من المتوقع أن ترتفع هذه الفئة بنسبة 60% تقريبًا، أي ما يعادل 6 ملايين أسرة إضافية. هذا التحول الديموغرافي سيفرض تحديات فريدة تتعلق بتوفير مساكن مناسبة وخدمات داعمة لكبار السن.

على صعيد البناء، يتوقع JCHS أن ينخفض الطلب على الوحدات السكنية الجديدة من متوسط 1.4 مليون وحدة سنويًا حاليًا إلى 1.1 مليون وحدة سنويًا بين 2025 و2035، ثم إلى 800,000 وحدة سنويًا بين 2035 و2045 ومع ذلك، يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك نقصًا حاليًا في المعروض يتراوح بين 1.5 مليون و5.5 مليون وحدة سكنية، مما يعني أن مستويات البناء الفعلية قد تتجاوز هذه التوقعات لمعالجة هذا العجز المتراكم.

2- تحديات العمالة وتكاليف المواد

يواجه قطاع البناء في الولايات المتحدة تحديات هيكلية كبيرة، أبرزها نقص العمالة الماهرة وارتفاع تكاليف المواد. فوفقًا لجمعية المقاولين الأمريكيين (ABC)، ستحتاج الصناعة إلى جذب 439,000 عامل جديد في عام 2025 لتلبية الطلب المتوقع . وتذهب تقديرات الرابطة الوطنية لبناة المنازل (NAHB) إلى أبعد من ذلك، مشيرة إلى حاجة سنوية لتوظيف 723,000 عامل بناء . كما تشير تقديرات AIC إلى نقص يبلغ حوالي 500,000 عامل ماهر في القطاع .

تتفاقم هذه المشكلة بسبب ارتفاع تكاليف مواد البناء. فبين يونيو ويوليو 2025، ارتفعت أسعار مواد البناء بنسبة 0.2%، وبنسبة 3.3% مقارنة بالعام الماضي [5]. وخلال الربع الأول من عام 2025، شهدت أسعار مدخلات البناء ارتفاعًا سنويًا بنسبة 9.7% [6]. ومنذ عام 2020، ارتفعت أسعار أكثر من 80% من مواد البناء بمتوسط 19% . وتُعد الرسوم الجمركية عاملاً رئيسيًا في هذا الارتفاع، حيث يُتوقع أن تزيد تكاليف البناء الإجمالية بنسبة تتراوح بين 4% و6% خلال الـ 12 شهرًا القادمة بسبب هذه الرسوم .

3- تحولات في أسعار المنازل ومعدلات الرهن العقاري

شهدت أسعار المنازل في الولايات المتحدة ارتفاعات كبيرة في السنوات الأخيرة. ففي الربع الثاني من عام 2025، بلغ متوسط سعر بيع المنازل 410,800 دولار . ووصل هذا المتوسط إلى 439,495 دولار في أغسطس 2025 . وبشكل عام، يُقدر متوسط سعر المنزل الأمريكي في عام 2025 بحوالي 416,900 دولار . وتعكس هذه الأرقام زيادة كبيرة، حيث ارتفعت أسعار المنازل بنسبة 51.24% خلال السنوات الخمس الماضية حتى مايو 2025 .

في المقابل، شهدت معدلات الرهن العقاري تقلبات كبيرة. فبعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها عند 2.96% في عام 2021 ، ارتفعت بشكل ملحوظ. ورغم أن المتوسط التاريخي لمعدل الرهن العقاري الثابت لمدة 30 عامًا بين عامي 1990 و2025 كان 6.07%، إلا أن المعدلات الحالية في عام 2025 تدور حول 6.8%. هذا الارتفاع في تكلفة الاقتراض يضع ضغطًا إضافيًا على القدرة الشرائية للمشترين المحتملين.

4- صعود مجتمع المستأجرين وتحولات سوق الإيجار

دفعت الضغوط المتزايدة في سوق الشراء، والمتمثلة في ارتفاع أسعار المنازل وتكاليف التمويل، شريحة واسعة من الأميركيين نحو تأجيل قرار الشراء والاتجاه إلى الاستئجار. وقد أدى هذا التحول إلى صعود ما يمكن تسميته بـ

مجتمع المستأجرين. تُظهر الإحصاءات أن ما يقرب من نصف (49.7%) الأسر المستأجرة في الولايات المتحدة، أي حوالي 21 مليون أسرة من أصل 42.5 مليون، أنفقت أكثر من 30% من دخلها على تكاليف السكن في عام 2023، مما يشير إلى عبء تكلفة الإيجار الكبير.

يمثل المستأجرون حاليًا حوالي 34% من سكان الولايات المتحدة، مع وجود 44 مليون وحدة سكنية مستأجرة. والأهم من ذلك، أن المستأجرين شكلوا غالبية نمو الأسر (54.5%) العام الماضي، على الرغم من أنهم يمثلون حوالي 3 من كل 10 أسر أمريكية (34.1%).

على صعيد الإيجارات، شهدت الأسعار ارتفاعًا بنسبة 3.5% في أغسطس 2025 مقارنة بالعام الماضي . ومع ذلك، شهد متوسط الإيجار الوطني انخفاضًا طفيفًا بنسبة 0.2% في أغسطس 2025، ليصل إلى 1,400 دولار . هذه التقلبات تشير إلى ديناميكية معقدة في سوق الإيجار، حيث قد تشهد بعض المناطق انخفاضًا في الأسعار بينما تستمر مناطق أخرى في الارتفاع.

 5-فرص استثمارية واعدة

على الرغم من التحديات، يزخر سوق الإسكان الأميركي بفرص استثمارية طويلة الأمد للمستثمرين القادرين على التكيف مع التحولات الديموغرافية والاقتصادية:

* الصناديق العقارية (REITs) الموجهة لأسواق الإيجار: مع تزايد عدد الأسر المستأجرة، تظل صناديق الاستثمار العقاري التي تركز على العقارات المؤجرة، وخاصة المنازل العائلية الواحدة، خيارًا جذابًا.

* الإسكان لكبار السن والإسكان الميسور التكلفة: النمو المتوقع في عدد الأسر التي يرأسها كبار السن يخلق طلبًا كبيرًا على حلول الإسكان المتخصصة، بالإضافة إلى الحاجة المستمرة للإسكان الميسور التكلفة لتلبية احتياجات الشرائح ذات الدخل المحدود.

* شركات البناء ومواد الإنشاء: الشركات التي يمكنها التغلب على تحديات نقص العمالة وارتفاع تكاليف المواد، أو تلك التي تقدم حلولًا مبتكرة في البناء المستدام، ستكون في وضع جيد للاستفادة من الطلب على الوحدات الجديدة.

* التكنولوجيا المالية  (FinTech) وحلول التمويل المرنة: مع ارتفاع معدلات الرهن العقاري، ستزداد أهمية الشركات التي تقدم حلول تمويل مبتكرة ومرنة لمساعدة المشترين والمستأجرين على حد سواء.

الخلاصة

يواجه سوق الإسكان الأميركي مزيجًا من الضغوط الهيكلية والتحولات الديموغرافية التي ستعيد تشكيل ملامحه حتى عام 2035 وما بعده. فبينما يتباطأ نمو الأسر بشكل عام، يزداد الطلب على أنواع معينة من الإسكان، خاصة لكبار السن وللإيجار. وتظل تحديات نقص العمالة وارتفاع تكاليف المواد ومعدلات الرهن العقاري المرتفعة عوامل ضغط رئيسية. ومع ذلك، فإن هذه التحديات تفتح الباب أمام فرص استثمارية استراتيجية للمستثمرين الذين يتمتعون بالبصيرة الكافية لاستغلال هذه التحولات.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى