“الأحكام العامة لمواجهة الجريمة في القانون الجنائي”

وهذه الأحكام سوف نعالجها من خلال العناصر الآتية: –
(1) السلوك الإجرامي في جريمة غسل الأموال في ظل التشريع الكويتي.
(2) نطاق المسئولية القانونية عن جريمة غسل الأموال.
(3) المسئولية القانونية للشخص المعنوي.
تفصيل ذلك وتأصيله
أولاً: السلوك الإجرامي في جريمة غسل الأموال.
تعتبر جريمة غسل الأموال من الجرائم الإيجابية التي تتطلب التدخل من قبل الفاعل، وذلك باتخاذ موقف
مجرم على خلاف ما يقرره القانون.
ومعنى جريمة إيجابية أي أنها تتطلب البذل، وهذا يعني أنه لا يمكن أن نتصور ارتكاب جريمة غسل الأموال عن طريق موقف سلبي من قبل الفاعل، أي أنه لا يصدق عليها وصف الجريمة السلبية، بمعني أن هذه الجريمة لا يمكن أن تتصور إلا في صورة إيجابية، والسلوك السلبي عبارة عن أمر أو خطاب موجه للأفراد من قبل المشرع الجزائي للقيام بعمل، ويقرر عقوبة نظير عدم القيام به، مثال ذلك: نص المادة (166) من قانون الجزاء الكويتي التي تقرر بأن << كل شخص يلزمه القانون برعاية شخص آخر عاجز عن أن يحصل لنفسه على ضرورات الحياة بسبب سنة أو مرضه أو اختلال عقله أو تقييد حريته، سواء نشأ الالتزام عن نص القانون مباشرة أو عن عقد أو فعل مشروع أو غير مشروع، فامتنع عمداً عن القيام بالتزامه، وأقضى ذلك إلى وفاة المجني عليه أو إلى إصابته بأذى، يعاقب حسب قصد الجاني وجسامة الإصابات، بالعقوبات المنصوص عليها. ولكن هذا الكلام لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه لأنه من الممكن من الناحية القانونية أن تتصور وقوع جريمة غسل الأموال عن طريق اتخاذ سلوك سلبي وذلك بعدم القيام بالتبليغ الذي تطلب المشرع القيام به، كنوع من الالتزام الملقي على عاتق العديد من الأشخاص المشار إليهم عن طريق المادة (3) أو من ترك أمرهم إلى قرار يصدر بشأنهم من قبل وزير المالية.
كذلك لا تتحقق هذه الجريمة عن طريق الترك التي يأخذ بها المشرع الكويتي، حيث إن هذه الجرائم تتطلب شروطاً خاصة لإقرارها أو القبول بها ضمن نطاق التشريع الجزائي، وهذا ما انتهجه المشرع الكويتي، إذ أن جرائم الامتناع التي لا تعد من ضمن الجرائم الإيجابية أو ضمن الجرائم السلبية، إنما هي فئة ثالثة لابد من أن تتوافر فيها شروط معينة تميزها عن الجرائم السلبية، حيث إنه – وفي نطاق هذه الجرائم الواقعة بالترك. لابد من تحقق النتيجة، لا مجرد تحقق الامتناع، ولابد من وجود التزام قانوني معلن عنه من خلال قاعدة جزائية.
إلا أن المشرع الكويتي قد قرر من خلال المادة 12 من القانون رقم 106 لسنة 2013 على ضرورة الإبلاغ عن أي معاملة مشبوهة اتصل علمه بها.
وهذه المادة ألزمت المؤسسات المالية والمهن غير المالية المحددة إخطار الوحدة دون تأخير بأي معاملة أو أي محاولة لإجراء معاملة بصرف النظر عن قيمتها، إذا اشتبهت أو توافرت دلائل كافية للاشتباه في أن تلك المعاملات تجري بأموال متحصلة من جريمة أو أموال مرتبطة أو لها علاقة بها أو يمكن استعمالها للقيام بعمليات غسل أموال أو تمويل إرهاب
استثناءات:
وقد استثنت المادة سالفة الذكر المحامون وغيرهم من أصحاب المهن القانونية، والمحاسبون المستقلون بالإخطار عن معاملة وفقاً للفقرة السابقة إذا كان قد تم الحصول على المعلومات المتعلقة بتلك المعاملات في الظروف التي يخضعون فيها للسرية المهنية.
ثانياً: نطاق المسئولية القانونية عن جريمة غسل الأموال.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا في هذا الصدد هو: من هو المسئول قانوناً عن الجرائم الواردة في القانون رقم 106 لسنة 2013 الكويتي المتعلق بجرائم غسل الأموال؟
إن الناظر لنص المادة (32) من القانون الجديد سالف الذكر يجد أنه قد بين نطاق هذه المسئولية الجزائية
حيث قرر أنه:
((مع عدم الإخلال بالمسئولية الجزائية للشخص الطبيعي يعاقب أي شخص اعتباري يرتكب جريمة غسل الأموال أو تمويل الإرهاب بغرامة لا تقل عن خمسين ألف دينار ولا تجاوز مليون دينار أو ما يعادل قيمة إجمالي قيمة الأموال محل الجريمة، أيهما أعلى.
ويجوز معاقبة الشخص الاعتباري بمنعه بصفة دائمة أو مؤقته مدة لا تقل عن خمس سنوات من القيام بأنشطة تجارية معينة بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو بإغلاق مكاتبه التي استخدمت في ارتكاب الجريمة بصفة دائمة أو مؤقته أو يقدم إيضاحاً كافياً عن العملة أو الأدوات القابلة للتداول لصالح حاملها، أو يخفي عن عمد أو إهمال جسيم وقائع ينبغي الإفصاح عنها، وإذا كان مرتكب المخالفة شخصاً اعتبارياً يُعاقب بغرامة لا تقل عن قيمة الأموال محل الجريمة ولا تجاوز ضعفها)).
يتبين من هذا النص أن المسئولين عن هذه الجريمة أو الفاعلين لها من الممكن أن يكونا اثنين، الشخص
الطبيعي والشخص المعنوي..
تفصيل ذلك وتأصيله:
أولاً: مسئولية الشخص الطبيعي
بين المشرع الكويتي أن أول من يسأل عن هذه الجريمة هو الشخص الطبيعي من أفراد المجتمع، وهو المسئول التنفيذي في نطاق المسئولية الجزائية، أذ أنه هو المخاطب الرئيسي بقواعد قانون الجزاء، والخطاب التشريعي موجه إليه في الأصل، فيسأل سواء كان موظفاً في هذه المؤسسات المالية على النحو الوارد في قانون غسل الأموال، أو كان من ضمن غيرهم من أفراد المجتمع الذي يحاولون إضفاء صفة المشروعية على أموال متحصلة من جرائم تم ارتكابها عن طريق الوسائل المشار إليها في نص المادة الثانية من هذا القانون، أو صور المساهمة الجنائية المشار إليها بالقانون، فلا يعد هذا القانون قانوناً خاصاً لأصحاب وظيفة معينة كقانون مكافحة الوزراء الذي يتطلب صفة خاصة في مرتكب الجريمة أو المتهم، ككونه قد شغل منصب وزير أو قانون الأعمال الطبية الذي لا ينطبق إلا على من يصدق عليهم العمل أو القيام بعمل طبي.
وصفوة القول
إن هذا القانون يثير مسئولية كل من يقوم بفعل يعد من ضمن الأفعال الداخلة في نطاق صور المساهمة في جريمة غسل الأموال سواء كان من العاملين في المؤسسات المالية – أو غيرهم من أفراد المجتمع.
ثانياً: المسئولية القانونية للشخص المعنوي:
وهذه المسئولية من شأنها أن تثير عدة تساؤلات منها:
(1) ما المقصود بالشخص المعنوي الذي تثبت له الشخصية القانونية من غير الإنسان؟
(2) وهل من اللازم أن يتخذ الشخص المعنوي طابعاً خاصاً يتناسب والطبيعة الاقتصادية أم أن المقصود به هو كل كيان له شخصية معنوية أياً كانت؟
(3) وما مدى صعوبة التحقق من أسباب امتناع مسئولية الشخص المعنوي؟
تفصيل ذلك وتأصيله
1- المقصود بالشخص المعنوي.
يمكن تعريف الشخص المعنوي بأنه شخص اعتباري له إرادة مستقلة جماعية منبثقة من تلاقي إرادات الأفراد المكونين له، ومتميزة عن إرادة كل عضو من أعضائه. وبصدد جريمة غسل الأموال، فإن للشخص المعنوي دوراً بارزاً باعتباره – في الغالب – الكيان الذي يسعى نحو تمويه حقيقة الأموال الناتجة من الجرائم وذلك عن طريق أشكاله المختلفة كالشركات والمؤسسات التي تملك القدرة الفنية والمادية على ذلك. ولذلك حرصت التشريعات المختلفة على النص صراحة على انعقاد مسئولية الشخص المعنوي في هذه الجريمة.
ولنا أن نطرح هنا تساؤلاً محدداً: هل من اللازم أن يتخذ الشخص المعنوي طابعاً خاصاً يتناسب والطبيعة
الاقتصادية للجريمة أم أن المقصود به هو كل كيان له شخصية معنوية أياً كانت؟
لاشك أن ورود لفظ الشخص المعنوي بصورة عامة يقتضى عدم تقييده في حدود معينة، فكل مؤسسة أو شركة من شأنها أن تكون فاعلاً أصلياً في جريمة غسل الأموال، سواء كانت مؤسسة مالية تقليدية تقوم عادة بمزاولة النشاط المالي للدولة كالمصارف التجارية ومؤسسات الادخار والإقراض والمصارف التي تخضع لإشراف البنك المركزي للدولة أم كانت مؤسسة مالية غير تقليدية تقدم خدمات مشابهة لخدمات المصارف كمكاتب الصيرفة والسمسرة (البورصة)، أم كانت مؤسسة أو شركة من شأنها أن تكون محلاً خصباً لتداول النقود كالمطاعم والملاهي وغيرها.
ومن ثم فإن انعقاد مسئولية تلك المؤسسات يقتضي أمرين:
الأول: عدم مسئولية الأشخاص الطبيعيين نظراً لتوافر إرادتهم المنفردة إلى جانب إرادة الشخص المعنوي
الجماعية.
والثاني: إثبات ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي من ناحية، وبواسطة ممثليه من ناحية أخرى. نأتي بعد ذلك إلى السؤال الأخير الذي طرحناه سلفاً وهو – ما مدى صعوبة التحقق من أسباب امتناع مسئولية الشخص المعنوي؟
يقول الدكتور سليمان عبد المنعم: ” تعتبر جريمة غسل الأموال من الجرائم المركبة، تلك الجرائم التي تتميز بالصعوبة والتعقيد إزاء مسألة إثبات الركن المعنوي اللازم لقيامها خصوصاً فيما لو كان فاعلها شخصاً معنوياً مما يقودنا للقول بأن امتناع مسئولية المؤسسة الفرع بسبب سلب إرادتها يستوجب التحقق من توافر مبدأ حسن نيتها، وذلك بتقديمها للأسباب الجدية والسائغة والدالة على اعتقاد مشروعية فعلها وعدم قدرتها على مخالفة التعليمات والأوامر الصادرة لها ” أ.هـ “.
بيد أن المؤسسة الفرع لا تستطيع الاحتجاج بسلب إرادتها لمجرد أنها ملتزمة تنفيذ ما توجهه لها المؤسسة الأم، نظراً لأن مسئولية المؤسسة التابعة مستقلة عن مسئولية المؤسسة المتبوعة.
ويستفاد من نص المادة 32 من القانون الجديد سالف الذكر ومما تقدم جميعه الآتي:
- أن قيام مسئولية الشخص المعنوي لا تعفي بالضرورة من قيام مسئولية الشخص الطبيعي.
وهذه مستفادة من قول المشرع (مع عدم الإخلال بالمسئولية الجزائية للشخص الطبيعي يعاقب أي
شخص اعتباري … إلخ).
- انحصار العقوبات المطبقة على الشخص المعنوي في العقوبات الواردة في نص المادة 32 من قانون
غسل الأموال الكويتي حيث تتناسب مع طبيعة الشخص المعنوي.
وفي المقال القادم سنتحدث بشيء من التفصيل عن المسئول جنائياً عن جرائم غسل الأموال في ظل التشريع المصري، وارتكاب الشخص الطبيعي للجريمة وكذا الشخص المعنوي وتقرير المسئولية الجنائية الخاصة به. وماذا لو ارتكب الشخص الطبيعي الجريمة لحساب شخص معنوي؟