دور التدقيق الداخلي في وظيفة الموارد البشرية: شريكٌ لا غنى عنه
بقلم: محمد عثمان – مدير تدقيق داخلي
CPA,CIA,CMA,CRMA,CISA,CRISC,CERM,CFE, PMP,PBA
في سلسلة مقالاتنا حول “التدقيق الداخلي كشريك استراتيجي”، تناولنا سابقًا دور التدقيق في دعم الوظائف المتخصصة عبر قطاعات متنوعة — من النفط إلى البنوك، ومن الصناعة إلى الخدمات. واليوم، نوجّه الأنظار إلى وظيفة مشتركة بين جميع الشركات دون استثناء: وظيفة الموارد البشرية.
فمهما اختلف نشاط الشركة أو حجمها، تظل الموارد البشرية العمود الفقري لأي منظمة، فهي المسؤولة عن جذب الكفاءات، وتنميتها، وتحفيزها، وإنهاء علاقتها بالشركة بسلاسة وشفافية. ومع ذلك، فإن هذه الوظيفة — رغم طابعها الإنساني — مليئة بالعمليات الحساسة التي تحمل مخاطر مالية، قانونية، تشغيلية. وهنا، لا يكتفي التدقيق الداخلي بدوره التقليدي كمراقب، بل يتحول إلى شريك استراتيجي يُضيف قيمة حقيقية عبر تحسين الضوابط، وتعزيز الامتثال، ورفع كفاءة الأداء.
التخطيط البشري: بين التوقّع والواقع
يبدأ دور الموارد البشرية بالنظر إلى المستقبل: كم موظفًا نحتاج؟ في أي وظائف؟ وهل لدينا كوادر مؤهلة للمناصب القيادية؟ هذا النشاط الاستباقي يُعرف بـ “التخطيط البشري” (Human Resource Planning)، وهو حجر الأساس لأي استراتيجية تنظيمية ناجحة. لكن غياب التخطيط أو ضعفه قد يؤدي إلى فراغات وظيفية حرجة، أو تضخم في التوظيف دون حاجة فعلية.
المخاطر هنا تشمل اتخاذ قرارات توظيف عشوائية و شغور مناصب حساسة دون بديل جاهز، أو غياب خطة تعاقب واضحة للقيادات، مما يعرّض استمرارية العمل للخطر عند مغادرة أحد المديرين.
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال التحقق من وجود خطة تخطيط بشري معتمدة ومُحدَّثة تتماشى مع استراتيجية الشركة، ومراجعة الهيكل التنظيمي ، والتأكد من استخدام مؤشرات أداء لمراقبة الفجوات بين العرض والطلب، بذلك، يضمن التدقيق الداخلي أن قرارات التوظيف والتطوير لا تُتخذ بناءً على ردود فعل عاجلة أو ظروف طارئة، بل كجزء من رؤية مدروسة تدعم استقرار العمليات وتحقيق أهداف الشركة على المدى الطويل – وهو أمر بالغ الأهمية في صناعات تعتمد على التشغيل المستمر والكفاءة التشغيلية.
التوظيف: من الإعلان إلى التوجيه
تُعد عملية التوظيف من أكثر المراحل حساسية، إذ تُحدد جودة رأس المال البشري لأعوام قادمة. وتشمل هذه العملية الإعلان عن الشواغر، وفرز السير الذاتية، وإجراء المقابلات، وتوثيق العقود، وتوجيه الموظف الجديد.
المخاطر المحتملة تشمل تعيين غير مؤهلين بسبب معايير اختيار ضعيفة، أو تجاوز الصلاحيات في إصدار عروض توظيف، أو عدم التحقق من الخلفيات (مثل المؤهلات أو السجل الجنائي).
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال مراجعة دليل الموظفين، والتأكد من توثيق جميع مراحل التوظيف (الطلب، المقابلة، العرض، التوجيه)، والتحقق من وجود نظام تفويض واضح للموافقة على التعيينات، مما يعزز الشفافية ويقلل من مخاطر التحيّز أو التعيينات غير المبررة.
بذلك، لا يُسهم التدقيق الداخلي فقط في تعزيز الشفافية ومنع التحيّز أو العلاقات الشخصية من التأثير على القرارات، بل يضمن أيضًا أن كل موظف جديد يُضاف إلى الفريق يُمثل قيمة فعلية تدعم أهداف الشركة التشغيلية والاستراتيجية — وليس عبئًا إضافيًّا.
كشوف المرتبات: الدقة والامتثال
تُعد عملية إعداد كشوف المرتبات من أكثر العمليات تكرارًا وأهمية في أي شركة، وليست مجرد إجراء روتيني. فهي تمثل التزامًا ماليًّا وأخلاقيًّا تجاه الموظفين، وواجبًا قانونيًّا تجاه الجهات الرقابية — خاصة في دولة الكويت، حيث تخضع الرواتب واشتراكات الضمان الاجتماعي (مثل صندوق التأمينات الاجتماعية) لأنظمة صارمة وعقوبات رادعة في حال المخالفة.
المخاطر هنا تشمل أخطاء في الحساب تؤدي إلى دفع رواتب زائدة (خسارة مالية) أو ناقصة (إثارة استياء الموظفين وشكاوى قانونية)، وعدم الامتثال لقوانين الاشتراكات، أو تضارب المهام (مثل من يُدخل البيانات ويُصرّف الرواتب).
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال اختبار عينات من الرواتب للتأكد من دقة الحساب، والتحقق من فصل المهام بين الإدخال والموافقة والتوزيع،و مقارنة التكاليف الفعلية بالموازنات ومناقشة الانحرافات ومراجعة الالتزام بدفع الاشتراكات القانونية للموظفين الكويتيين، مما يحمي الشركة من الغرامات ويضمن عدالة النظام.
بذلك، لا يحمي التدقيق الداخلي الشركة من الغرامات المالية أو المساءلة القانونية فحسب، بل يعزز أيضًا العدالة والشفافية في معاملة الموظفين — وهو عنصر جوهري لبناء ثقافة عمل مستقرة وموثوقة في بيئة عمل تتطلب ولاءً عاليًا وكفاءة تشغيلية مستمرة.
التدريب والتطوير: استثمارٌ لا بد من قياس عائده
التدريب ليس مجرد نفقة، بل هو استثمار استراتيجي في كفاءة الموظفين، وسلامة التشغيل، وجودة المنتج. لكنه قد يتحول إلى هدر مالي إذا لم يُربط باحتياجات فعلية أو يُقيّم بفعالية.
المخاطر هنا تشمل إنفاق ميزانيات كبيرة على برامج غير مرتبطة باحتياجات العمل الحقيقية، و تجاهل أولويات تدريبية حرجة أو غياب توثيق الحضور والتقييم.
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال مراجعة آلية تحديد الاحتياجات التدريبية، والتحقق من موافقة الإدارة العليا على خطط التدريب،والتحقق من ربط البرامج التدريبية بالأهداف الوظيفية والتأكد من استخدام بيانات الحضور في تحسين التخطيط، مما يضمن أن كل دينار يُنفق يُحقّق تحسّنًا في الأداء.
بذلك، يضمن التدقيق الداخلي أن كل دينار يُنفق على التدريب يُحقّق تحسّنًا ملموسًا في الأداء — سواء عبر رفع الكفاءة التشغيلية، تقليل المخاطر، أو تعزيز ثقافة التحسين المستمر في بيئة العمل.
تقييم الأداء: من التوثيق إلى التحسين
تقييم الأداء ليس مجرد ورقة روتينية، بل هو أداة حيوية لفهم نقاط القوة والضعف، ودفع عجلة التحسين المستمر في الأداء الفردي والجماعي.
المخاطر هنا تشمل تقييمات غير موضوعية تفتقر إلى معايير واضحة، أو غياب التوثيق، أو تراكم المشكلات دون تدخل مبكر، مما قد يؤدي إلى أخطاء تشغيلية مكلفة.
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال التأكد من وجود نظام تقييم موحد وفق معايير مرتبطة بأهداف العمل ، ومراجعة عينات من التقييمات للتحقق من التوقيع والشفافية، و فحص مدى استخدام نتائج التقييم في القرارات الإدارية والتحقق من وجود آلية لمعالجة أداء الموظفين الضعيف، مما يعزز ثقافة الأداء العالي.
بذلك، لا يكتفي التدقيق الداخلي بالتحقق من الامتثال الإجرائي، بل يُسهم في بناء ثقافة أداء عالي، حيث يُنظر إلى التقييم كفرصة للنمو — لا كعقوبة أو روتين بيروقراطي — مما يعزز الكفاءة التشغيلية ويحمي الشركة من المخاطر المرتبطة بالأداء الضعيف.
إنهاء الخدمة: خاتمة منظمة لعلاقة عمل
حتى في نهاية العلاقة الوظيفية — سواء بالاستقالة أو التقاعد أو انتهاء العقد — تبقى الإجراءات النظامية لإنهاء الخدمة عنصرًا حاسمًا في الحفاظ على سلامة الأصول، الامتثال المالي، وسمعة الشركة. وتشمل خطوات مثل:تسوية المستحقات المالية و إرجاع الأصول المملوكة للشركة و إجراء مقابلات الخروج حتى في نهاية العلاقة الوظيفية
تبقى المخاطر قائمة: كدفع مبالغ غير مستحقة بسبب أخطاء في الحساب أو سوء فهم للبنود التعاقدية، أو استمرار صلاحيات وصول للموظف السابق إلى أنظمة الشركة أو منشآتها (مما يشكّل ثغرة أمنية)، أو فقدان ممتلكات الشركة أو غياب توثيق مقابلات الخروج، مما يحرم الإدارة من فرص تحسين بيئة العمل بناءً على تجارب حقيقية.
هنا يُضيف التدقيق الداخلي القيمة من خلال إعادة حساب بدل نهاية الخدمة لعينة من الموظفين، والتحقق من استرجاع الأصول وإلغاء الصلاحيات، والتحقق من إجراء مقابلات خروج لفهم أسباب الاستقالة وتحسين بيئة العمل أو معالجة مشكلات متكررة .
بذلك، يضمن التدقيق الداخلي أن نهاية العلاقة الوظيفية تكون منظمة، آمنة، ومحسوبة — تحافظ على مصالح الشركة، وتحترم حقوق الموظف، وتفتح الباب لتحسين مستمر في إدارة الموارد البشرية.
الخلاصة: شريكٌ استراتيجي لا غنى عنه
لم تعد إدارة الموارد البشرية تقتصر على التوظيف أو إعداد الرواتب، بل أصبحت محوراً أساسياً لإدارة العنصر البشري وتطويره باعتباره أهم أصول الشركة. ومع تطور بيئة العمل وتشدد المتطلبات التنظيمية، تغيّر دور التدقيق الداخلي من جهة رقابية تكتشف الأخطاء بعد وقوعها إلى شريك استراتيجي يساهم منذ البداية في تصميم وبناء أنظمة موارد بشرية متكاملة وفعّالة تقوم على المرونة والحوكمة.
في عالمٍ يُقاس فيه نجاح الشركات بمدى نضج حوكمة عملياتها واستدامة أدائها، فإن دمج التدقيق الداخلي في دورة حياة وظيفة الموارد البشرية لم يعد خيارًا — بل استثمارًا ذكيًّا في استقرار الشركة، كفاءتها، وقدرتها على الاحتفاظ بأفضل الكفاءات.
المقال جزء من سلسلة “التدقيق الداخلي كشريك استراتيجي”، التي تستعرض دور التدقيق عبر الوظائف الأساسية في الشركات، بغض النظر عن القطاع.



