مقالات

أستراليا تقطع الطريق على «تيك توك» و«إنستغرام»: حظر تاريخي على المراهقين

 

ارتباط مباشر بين الاستخدام المبكر للسوشيال ميديا وتقلبات المزاج.

الحكومة الأسترالية تعلن حظرًا شاملًا على استخدام الأطفال دون 16 عامًا لجميع منصات التواصل الاجتماعي الكبرى.

غرامات تصل إلى 32 مليون دولار أمريكي على الشركات في حال حدوث مخالفات خطيرة أو متكررة.

لجنة برلمانية فرنسية توصي بفرض حظر على استخدام وسائل التواصل دون 15 عامًا، وحظر تجوّل رقمي” من 15 إلى 18 عامًا.

القرار التشريعي الأسترالي إعلان عالمي بأن الطفولة الرقمية وصلت إلى نقطة الانفجار.

ما الذي دفع أستراليا لاتخاذ هذا القرار الجريء؟ وما هي تداعياته؟ وكيف سيغيّر المستقبل خلال العقد القادم؟

القرارات غير الإلزامية لم تنجح. فجاء الحظر ليكون أول تشريع صارم بعد عشر سنوات من التحذيرات.

القانون الأسترالي سيصبح مرجعًا دوليً للدول التي تتبنى: رؤية مجتمعية محافظة، خططًا لحماية الأسرة، بيئات تعليمية صارمة.

 

أستراليا تحظر وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم دون 16 عامًا: ما الذي يعنيه هذا القرار للعالم؟

في واحدة من أكثر الدراسات إثارة للقلق هذا العام، كشفت نتائج مسح وطني أسترالي بُني على عيّنة واسعة من الأطفال بين 10 و15 عاماً أن جيلاً كاملاً بات يعيش داخل فضاء رقمي منفلت، بلا حواجز ولا حماية كافية.  فالدراسة، التي أُنجزت مطلع 2025، أظهرت أن96%  من الأطفال في هذه الفئة العمرية يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بصفة يومية، وأن سبعة من كل عشرة منهم تعرضوا بالفعل لمحتوى ضار، يتراوح بين خطاب كراهية ضد المرأة ومواد عنيفة، وصولاً إلى محتوى يُشجّع على اضطرابات الأكل والانتحار.

لكن الوجه الأكثر ظلمة يكمن في الأرقام التي تكشف حجم الخطر على براءة الأطفال؛ إذ اعترف واحد من كل سبعة بأنه واجه سلوكًا يشبه «الاستدراج الإلكتروني» (grooming) من بالغين أو أطفال أكبر سنًّا، في حين أكد أكثر من نصف المراهقين أنهم كانوا ضحايا مباشرة لـ التنمر الإلكتروني.

وبتاريخ 10 ديسمبر 2025، وفي خطوة غير مسبوقة عالميًا، أعلنت الحكومة الأسترالية حظرًا شاملًا على استخدام الأطفال دون 16 عامًا لجميع منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، بما فيها تيك توك، إنستغرام، سناب شات، يوتيوب، فيسبوك، X (تويتر)، وثريدز.  القرار الذي هزّ صناعة التكنولوجيا عالميًا، لم يكن مجرد إجراء تنظيمي، بل محاولة عميقة لإعادة تعريف العلاقة بين الأطفال والفضاء الرقمي.  فما الذي دفع أستراليا لاتخاذ هذا القرار الجريء؟ وما هي تداعياته الاقتصادية والاجتماعية والقانونية؟ وكيف سيغيّر مستقبل التربية، والصحة النفسية، ومجتمعاتنا خلال العقد القادم؟

هذه الأرقام لا تُعبّر فقط عن أزمة رقمية، بل عن تحوّل ثقافي عميق يهدد الصحة النفسية لأطفالنا، ويكشف الفراغ التنظيمي الهائل في منصات يفترض أنها “اجتماعية”، فإذا بها تتحول إلى ساحات مفتوحة للخطر، تعمل بلا رقيب ولا إحساس بالمسؤولية تجاه الفئات الهشة.  إن ما تقوله الدراسة الأسترالية بوضوح، وبصوت أعلى من كل التحذيرات السابقة، هو أن أطفال اليوم يعيشون في بيئة رقمية أخطر من قدرتهم على الفهم أو المواجهة…  وأن السؤال الحقيقي لم يعد: كيف نعلّم أبناءنا استخدام التقنية؟ بل أصبح: كيف نحمي طفولتهم من العالم الذي خلقناه لهم؟

أولًا: كيف سيُطبّق الحظر الأسترالي؟

1- منع إنشاء الحسابات الجديدة:

لن يتمكن أي طفل تحت 16 عامًا من فتح حساب على المنصات المذكورة. المنصات أصبحت مطالبة بالتحقق الصارم من العمر عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعرّف على الوثائق الرقمية. ولن يتم معاقبة الأطفال أو أولياء الأمور على خرق الحظر. بدلاً من ذلك، ستواجه شركات وسائل التواصل الاجتماعي غرامات تصل إلى 49.5 مليون دولار أسترالي (32 مليون دولار أمريكي، 25 مليون جنيه إسترليني) في حال حدوث مخالفات خطيرة أو متكررة.  وتقول الحكومة الاسترالية إن على الشركات اتخاذ “خطوات معقولة” لمنع دخول الأطفال إلى منصّاتها، ويجب أن تستخدم تقنيات متعددة للتحقق من العمر.  وقد تشمل هذه التقنيات: بطاقات الهوية الحكومية، التعرف على الوجه أو الصوت، ما يُعرف بـ “استدلال العمر” الذي يحلل سلوك المستخدم وتفاعلاته عبر الإنترنت لتقدير عمره.  ولا يمكن للمنصّات الاعتماد على قيام المستخدمين بالإفصاح عن أعمارهم بأنفسهم، أو اعتماد أولياء الأمور لتأكيد أعمار أطفالهم.

2- إغلاق الحسابات الحالية:

جميع الحسابات القائمة للأطفال دون 16 عامًا ستُعطّل تلقائيًا.  هذا القرار يشمل ملايين الحسابات في أستراليا وحدها.  فقد بدأت شركة ميتا – المالكة لفيسبوك وإنستغرام وثريدز – بإغلاق حسابات المستخدمين اليافعين منذ 4 ديسمبر، وقالت إن من يتم إغلاق حسابه بالخطأ يمكنه إثبات عمره باستخدام بطاقة حكومية أو تقديم فيديو سيلفي.  أما سنابشات، فقد أوضحت أن المستخدمين يمكنهم التحقق من أعمارهم من خلال الحسابات البنكية أو بطاقات الهوية أو صور السيلفي.

3- مسؤولية قانونية على الشركات:

شركات التكنولوجيا ستتعرّض لغرامات قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات في حال مخالفة القرار أو عدم حماية الأطفال.

4- استخدام أنظمة كشف العمر عبر الذكاء الاصطناعي:

الحكومة تدعم شركات التطوير لبناء أنظمة قادرة على تقدير عمر المستخدم من: ملامح الوجه، سلوك التصفح، تاريخ الاستخدام، بيانات الجهاز وهو اتجاه يثير نقاشات واسعة حول الخصوصية.

ثانيًا: الدوافع التاريخية… لماذا الآن؟

أستراليا لم تتخذ هذا القرار وليد اللحظة. بل جاء نتيجة عشر سنوات من التحذيرات:

1- تراجع كبير في الصحة النفسية للمراهقين:

دراسات حكومية أثبتت: ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب بنسبة 60% منذ 2011. زيادة محاولات الانتحار بين الفتيات بنسبة نحو 40%. وارتباط مباشر بين الاستخدام المبكر للسوشيال ميديا وتقلبات المزاج.   كما كشفت نتائج مسح وطني أسترالي بُني على عيّنة واسعة من الأطفال بين 10 و15 عاماً أن جيلاً كاملاً بات يعيش داخل فضاء رقمي منفلت، بلا حواجز ولا حماية كافية.

2- زيادة في حالات التنمّر الإلكتروني:

المدارس الأسترالية سجّلت ارتفاعًا قياسيًا في: التنمّر،الابتزاز، العزل الاجتماعي، حملات التشويه بين الطلاب

3- ضغوط اجتماعية على الحكومة

أولياء الأمور، الجمعيات التعليمية، وهيئات حماية الطفل طالبت عبر 283 حملة رسمية بفرض مزيد من الرقابة.

4- فشل الأنظمة السابقة في الحد من المخاطر

القرارات غير الإلزامية لم تنجح. فجاء الحظر ليكون أول تشريع صارم في دولة غربية متقدمة.

ثالثًا: الآثار الاجتماعية لقرار الحظر

1- تفكيك “الإدمان الرقمي” لدى الأطفال:

الحكومة تعتبر القرار محاولة لإنقاذ جيل كامل من: الإدمان على المقاطع القصيرة، الجوائز الرقمية، الدوبامين السريع، التشتت المستمر، القلق من تفويت الأحداث (FOMO)وهذه الظاهرة أصبحت بمثابة مرض اجتماعي عالمي.

2- تحسين الصحة النفسية:

من المتوقع أن يؤدي الحظر إلى: تحسين جودة النوم لدى الأطفال، زيادة التركيز الدراسي، انخفاض معدلات القلق الاجتماعي وعودة الأنشطة الرياضية والحياة الحقيقية.

3- إعادة تشكيل العلاقات الأسرية:

مع اختفاء الهاتف الذكي من يد الأطفال لساعات طويلة يوميًا، تتوقع الدراسات زيادة التواصل المباشر داخل الأسرة، عودة الحوارات الحقيقية، انخفاض النزاعات بين الأبناء والآباء، تحسن مهارات الذكاء العاطفي

4- الحد من ثقافة المقارنة السلبية:

منصات التواصل كانت المصدر الأول لما يسمّى بـ”أزمة الصورة الذاتية”. الدراسات تشير إلى: شعور 1 من كل 3 فتيات بأنهن غير جميلات بسبب إنستغرام، ارتفاع اضطرابات الأكل بسبب “الفلاتر المثالية”. الحظر يهدف لكسر هذه الدائرة المدمّرة قبل اكتمال تكوين الهوية النفسية للأطفال.

رابعًا: الآثار الاقتصادية… في مواجهة عمالقة التكنولوجيا

1- خسائر مباشرة للشركات الرقمية:

أستراليا تمثل سوقًا مهمًا للشباب.  وتشير تقديرات تحليلية إلى خسارة مئات ملايين الدولارات من عوائد الإعلانات وانخفاض التفاعل اليومي بنسبة قد تصل إلى 30%

2- خطر انتقال العدوى التشريعية:

أكبر مخاوف شركات التكنولوجيا أن تصبح أستراليا “النموذج الأول” فقط، وأن تبدأ دول أخري مثل: بريطانيا، كندا، فرنسا في سنّ تشريعات مشابهة.

3- انعكاسات على اقتصاد الإعلانات:

المعلنون سيبحثون عن قنوات جديدة بعد أن اختفى ملايين المراهقين من السوشيال ميديا، ما قد يعزز: سوق الألعاب، تطبيقات التعليم ، المحتوى التلفزيوني، مراكز الترفيه العائلية.

خامسًا: الآثار القانونية—خطوة تُعيد صياغة قوانين الإنترنت

1- تحميل المنصات مسؤولية حماية الأطفال:

لأول مرة، تصبح الشركات مسؤولة قانونيًا عن: التأكد من عمر المستخدم، منع المحتوى الضار، حذف الحسابات المخالفة.

2- نقاشات شرسة حول الخصوصية:

تقنيات “تقدير العمر” تثير مخاوف بشأن: استخدام بصمة الوجه، تخزين البيانات، مراقبة السلوك، هي معركة بين حماية الأطفال و حماية الخصوصية.

3- تمهيد لقوانين جديدة عالميًا:

القانون الأسترالي سيصبح مرجعًا دوليًا، خصوصًا للدول التي تتبنى: رؤية مجتمعية محافظة، خططًا لحماية الأسرة، بيئات تعليمية صارمة، وهذا يشمل دولًا أخري قد ترى التحرك الأسترالي نموذجًا يمكن محاكاته.

سادسًا: التأثير على التربية الأسرية

1- عودة دور الوالدين:

الحظر يعيد السلطة إلى الأسرة بعد سنوات من سيطرة الشاشات.

الآباء سيُطلب منهم: مراقبة الأجهزة،إدارة وقت الأبناء،توفير بدائل تعليمية وترفيهية، تعزيز المهارات الحياتية.

2- فرصة لتعليم الأطفال مهارات العالم الحقيقي:

مثل: الذكاء العاطفي، التواصل اللفظي، العمل الجماعي، الرياضة، الإبداع.

3- تراجع الضغط النفسي على الآباء:

الآباء لن يشعروا بأنهم يقاتلون منصات أقوى منهم.

سابعًا: التأثير على مستويات العنف والجرائم الرقمية

* الحد من المحتوى العنيف: الأطفال كانوا يتعرضون لمقاطع مثل: الضرب، التحرش، الانتحار، السلوك العدواني، تحديات مميتة مثل “بلو ويل” و”فاير فاير”. الحظر يقلل هذه المخاطر جذريًا.

1- تقليل حالات التحرش والاستدراج الإلكتروني:

الأطفال هم الأسهل استهدافًا من قبل: المتحرشين، العصابات، المحتالين، بائعي المخدرات عبر الإنترنت، إغلاق الحسابات يغلق الأبواب أمام هذه التهديدات.

2- خفض العنف المدرسي:

التنمّر الرقمي كان أحد أكبر محفزات العنف في المدارس.  الحظر قد يؤدي إلى: هدوء العلاقات بين الطلاب، تقليل الصراعات التي تبدأ إلكترونيًا وحماية الفتيات من الابتزاز.

مستقبل أطفالنا لن يُكتب بخوارزميات الشركات العملاقة، بل بتحركٍ واعٍ ومسؤول يبدأ من كل بيت، وكل مدرسة، وكل مؤسسة. فهل سيصل هذا النموذج إلى الشرق الأوسط؟  العديد من الدول العربية تراقب التجربة الأسترالية عن كثب، خصوصًا في ظل: الجهود لحماية الأسرة، الصراع مع تأثير المحتوى الغربي، الحاجة لرفع مستوى الصحة النفسية لدى المراهقين وقد تكون دول مجلس التعاون من أوائل الدول التي تتبنى نسخة معدّلة من هذا القرار خلال الأعوام القادمة. وأعلنت الدنمارك عن خطط لحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم دون سن 15 عامًا، بينما تدرس النرويج اقتراحًا مشابهًا.  كما أوصت لجنة برلمانية في فرنسا بفرض حظر على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم دون 15 عامًا، بالإضافة إلى فرض “حظر تجوّل رقمي” على الفئة العمرية من 15 إلى 18 عامًا.  أما الحكومة الإسبانية فقد أعدّت مشروع قانون يتطلب موافقة أولياء الأمور للسماح لمن هم دون 16 عامًا بالوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي.  وفي المملكة المتحدة، أدت القواعد الجديدة التي تم إدخالها في يوليو 2025 إلى جعل الشركات الرقمية عُرضة لغرامات كبيرة أو حتى سجن المديرين التنفيذيين إذا فشلت في تطبيق إجراءات لحماية الشباب من المحتوى غير القانوني أو الضار.  وفي المقابل، تم إيقاف محاولة في ولاية يوتا الأمريكية لفرض حظر على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم دون 18 عامًا من دون موافقة الوالدين، وذلك بعد أن اعترض عليها قاضٍ فيدرالي في عام 2024.

تاسعًا: ماذا عن حماية البيانات؟

أثار المنتقدون أيضًا مخاوف بشأن جمع وتخزين البيانات على نطاق واسع، والذي يُعدّ ضروريًا للتحقق من أعمار المستخدمين.

فأستراليا – مثل كثير من دول العالم – شهدت سلسلة من خروقات البيانات البارزة، حيث تمّت سرقة معلومات شخصية حسّاسة ونشرها أو بيعها.  لكن الحكومة تؤكد أن التشريعات الجديدة تتضمن “حماية قوية” للبيانات الشخصية. وتنصّ هذه الحماية على أن البيانات لا يجوز استخدامها إلا لغرض التحقق من العمر، ويجب إتلافها بعد ذلك، مع فرض “عقوبات صارمة” على أي خرق.

خاتمة: هل نحن أمام نهاية عصر السوشيال ميديا للأطفال؟

القرار الأسترالي يعتبر قرار تشريعي وقانوني وأيضا إعلان عالمي بأن الطفولة الرقمية وصلت إلى نقطة الانفجار.  وإذا نجح هذا الحظر في: تخفيض معدلات الاكتئاب، تحسين التحصيل الدراسي، الحد من العنف، إعادة التوازن للأسرة فقد يشهد العالم تحولًا جذريًا في كيفية تعاملنا مع التكنولوجيا.  قد تكون أستراليا الدولة الأولى… ولكن من شبه المؤكد أنها لن تكون الأخيرة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى