مقالات

نوبل للاقتصاد 2025: من تراكم رأس المال إلى ثورة الأفكار

 

لم تعد جائزة نوبل في الاقتصاد مجرّد تكريمٍ سنوي يُمنح لأسماء لامعة في عالم الفكر الاقتصادي، بل أصبحت بوصلة فكرية تُوجّه الأنظار إلى الاتجاه الذي يسلكه الفكر الاقتصادي العالمي في كل مرحلة من مراحل تطوره.

تاريخ جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية

تُعرف جائزة نوبل في الاقتصاد رسمياً باسم “جائزة بنك السويد في العلوم الاقتصادية تخليداً لذكرى ألفريد نوبل” (The Sveriges Riksbank Prize in Economic Sciences in Memory of Alfred Nobe). تأسست هذه الجائزة في عام 1968 من قبل البنك المركزي السويدي بمناسبة الذكرى الـ 300 لتأسيسه، ومُنحت لأول مرة في عام 1969. على الرغم من أنها لا تعد واحدة من جوائز نوبل الأصلية التي أنشأها ألفريد نوبل في وصيته عام 1895، إلا أنها تُدار من قبل الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم وتُمنح وفقاً لنفس المبادئ التي تحكم جوائز نوبل الأخرى، مما يضفي عليها مكانة مرموقة في الأوساط العلمية.

الحائزون على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2025 ومساهماتهم العلمية

هذا العام، منحَت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم الجائزة إلى ثلاثة من أبرز العقول الاقتصادية المعاصرة، تقديراً لمساهماتهم الجوهرية في فهم النمو الاقتصادي القائم على الابتكار:

* جويل موكير  ( Joel Mokyr): الأستاذ في جامعة نورث وسترن  (Evanston, IL, USA)، والتي تُصنف ضمن أفضل 10 جامعات وطنية في الولايات المتحدة وضمن أفضل 30 جامعة عالمياً. حصل على نصف الجائزة “لتحديده المتطلبات الأساسية للنمو المستدام من خلال التقدم التكنولوجي”. تركز أبحاث موكير، التي تتجاوز 160 منشوراً، على التاريخ الاقتصادي لأوروبا، وخاصة الفترة من 1750 إلى 1914، والإبداع التكنولوجي، والتقدم الاقتصادي، وثقافة النمو، والابتكار ومقاومته. لقد أظهر موكير كيف أصبح النمو المستدام هو القاعدة الجديدة من خلال تحليل المصادر التاريخية. وأوضح أن النجاح المتتالي للابتكارات يتطلب ليس فقط معرفة كيفية عمل الأشياء، بل أيضاً وجود تفسيرات علمية راسخة لسبب عملها. قبل الثورة الصناعية، كان هذا الجانب غالباً ما يكون مفقوداً، مما جعل من الصعب البناء على الاكتشافات والاختراعات الجديدة. كما شدد على الدور الحاسم للمجتمع المنفتح على الأفكار الجديدة والمستعد لقبول التغيير كعامل أساسي لاستدامة النمو التكنولوجي والاقتصادي.

* فيليب أجيون (Philippe Aghion): الأستاذ في كوليج دو فرانس (باريس، فرنسا)، وإنسياد (باريس، فرنسا)، وكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (المملكة المتحدة). تُعد كوليج دو فرانس مؤسسة بحثية مرموقة، بينما تُصنف إنسياد ضمن أفضل كليات إدارة الأعمال عالمياً (المرتبة الرابعة عالمياً في تصنيف QS لعام 2025 في تخصصها). كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية هي أيضاً من المؤسسات الرائدة عالمياً في العلوم الاجتماعية.

وبيتر هيويت  (Peter Howitt): الأستاذ في جامعة براون Providence, RI, USA وهي جامعة بحثية خاصة مرموقة. تقاسما النصف الآخر من الجائزة “لنظرية النمو المستدام من خلال التدمير الخلاق”. استلهم أجيون وهيويت فكرة “التدمير الخلاق” من الاقتصادي جوزيف شومبيتر، وقاما في مقال لهما عام 1992 ببناء نموذج رياضي يوضح الآليات التي تحرك النمو المستدام. يصف هذا النموذج كيف تستثمر الشركات في عمليات إنتاج محسنة ومنتجات جديدة ذات جودة أفضل، بينما تخرج الشركات التي كانت تمتلك أفضل المنتجات سابقاً من المنافسة. هذه العملية “إبداعية” لأنها تبني على الابتكار، ولكنها أيضاً “مدمرة” لأن المنتجات القديمة تصبح بالية وتفقد قيمتها التجارية. يوضح نموذجهما أن هذا التدمير الخلاق، حيث تختفي الشركات والوظائف باستمرار وتحل محلها أخرى جديدة، هو جوهر عملية النمو المستدام. كما يمكن استخدام نموذج أجيون وهيويت لتحليل ما إذا كان هناك حجم أمثل للبحث والتطوير (R&D) والنمو الاقتصادي في ظل غياب التدخل السياسي، مع الأخذ في الاعتبار التوازن بين الحوافز الخاصة للبحث والتطوير والمكاسب الاجتماعية الكلية. يمتلك أجيون أكثر من 440 عملاً بحثياً، بينما يمتلك هيويت أكثر من 110 أعمال بحثية، وتتركز أبحاثهما على اقتصاديات النمو، الابتكار، ريادة الأعمال، الشركات والمنظمات، والسياسة الاقتصادية الكلية.

تحول في فهم مصادر النمو الاقتصادي

لقد شكّلت أعمال هؤلاء الاقتصاديين تحوّلًا جذريًا في فهمنا لمصادر النمو. فبينما ركّزت نظريات النمو الكلاسيكية، منذ آدم سميث وحتى روبرت سولو، على تراكم رأس المال المادي كركيزة أساسية للتقدّم الاقتصادي، جاء هؤلاء العلماء ليؤكدوا أن الابتكار هو رأس المال الحقيقي لعصرنا الحديث. في عالمٍ تتراجع فيه أهمية الموارد المادية أمام قوة الفكرة والمعرفة، باتت الأفكار الجديدة القادرة على توليد تقنيات وأسواق وفرص هي التي تُحدث النمو الحقيقي. النمو لم يعد يُقاس بما نملك من مصانع وآلات، بل بما نُبدع من حلول وتطبيقات.

تُعيد جائزة هذا العام التأكيد على أن الاقتصادات التي تستثمر في الفكر والبحث والابتكار هي التي تمتلك مفاتيح المستقبل، وأنّ الابتكار لم يعُد رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية لأي أمة تطمح إلى تنمية مستدامة تتجاوز حدود رأس المال والموارد. يوضح الفائزون كيف أن التدمير الخلاق يخلق صراعات يجب إدارتها بطريقة بناءة، وإلا فإن الابتكار سيعرقله الشركات القائمة والمصالح التي قد تتضرر.

بهذا، تُكرّس جائزة نوبل للاقتصاد 2025 مفهومًا جديدًا للنمو:“التقدّم لا يُقاس بما نملك، بل بما نبتكر.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى