النفط بين القوة الاقتصادية والتحولات الجيوسياسية: هل مازال سلاحًا حضاريًا؟

بعد سنة من بدء الصراع في غزة وفي منطقة الشرق الأوسط وأوكرانيا، لا تزال التحديات الإنسانية والمتعلقة بالتجارة قائمة. ومع نهاية شهر سبتمبر 2024 أسفر هذا الصراع عن مصرع أكثر من 40 ألف شخص ونزوح أكثر من 1,9 مليون نسمة (وفق تقرير صندوق النقد الدولي آفاق الاقتصاد الإقليمي) وفي أواخر سبتمبر، تصاعدت حدة الصراع في لبنان، وبحلول 6 أكتوبر وصل عدد الخسائر البشرية منذ أكتوبر 2023 إلى أكثر من 2000 شخص.
وبالإضافة إلى ذلك، استمرت البلدان المجاورة في المعاناة من الاضطرابات التجارية. وكان حجم شحن الحاويات عبر قناة السويس في منتصف سبتمبر 2024 أقل من المستويات السائدة قبل نشوب الصراع بما يزيد على 70% حيث استمر تحويل مسار التجارة حول رأس الرجاء الصالح كما ظلت تكاليف الشحن مرتفعة وفي المقابل، تبدو أنشطة السياحة معتمدة بشدة على العوامل ذات الخصوصية القُطْرية. فعلى الرغم من استمرار معاناة القطاعات المرتبطة بالسياحة في لبنان، أظهرت السياحة صلابة في كل من مصر والأردن، بدعم من الزوار الإقليميين، مما ساعد في انتعاش معدلات الإشغال الفندقي لتصل إلى مستويات ما قبل الصراع.
وتدور الصراعات كذلك في بلدان أخرى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتتسبب في معاناة إنسانية فادحة، وتعرقل توفير الخدمات الأساسية، وتلحق الأضرار بالبنية التحتية. ففي السودان، في أغسطس 2024 وبعد 500 يوم من اندلاع الحرب، نزح أكثر من 10 ملايين نسمة من ديارهم وانتشرت المجاعة والأمراض. هذا بالإضافة الي استمرار الحرب الأوكرانية الروسية والتي اندلعت في فبراير 2022، وأسفرت عن خسائر بشرية واسعة ونزوح ملايين الأوكرانيين، إضافة إلى آثار اقتصادية عالمية أبرزها ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وتأثر سلاسل التوريد.
في ضوء ذلك كله لدينا مجموعة من الأسئلة المرتبطة بتطورات الأحداث والصراعات، السؤال الأول يتعلق بالنفط، هل مازال سلاحًا حضاريًا قابلاً للاستخدام بنفس الطريقة التي شهدناها في حرب أكتوبر 1973؟ السؤال الثاني يتساءل عما إذا كان لدى منتجي النفط، وخاصة أوبك، تحكم في أسعار النفط؟ السؤال الثالث يستفسر عما إذا كانت أسعار النفط تلعب دورًا في زيادة معدلات التضخم في الدول الغربية التي تعتمد بشكل كبير عليه؟
هل مازال النفط سلاحًا عربيًا؟
للرد على هذا السؤال، دعونا نعيد النظر في التاريخ. حينما أعلن الملك فيصل، رحمه الله، وقف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو خمسين عامًا، تمثلت هذه الخطوة كاستراتيجية مضادة للولايات المتحدة وأي دولة دعمت الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر 1973. تسبب ذلك في خسائر اقتصادية كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث ارتفع سعر البرميل من 2,32 دولار إلى 11 دولارًا نتيجة صدمة النفط عام 1973، التي استمرت لشهور قليلة فقط. وعلى الرغم من أن حظر صادرات النفط العربية استمر لفترة قصيرة، إلا أنه كان وسيلة فعّالة لردع العديد من الدول، مما مكّن الدول العربية من زيادة الأسعار واستعادة السيادة في مجال الإنتاج والتصدير. هذا أيضًا أضاف دورًا جديدًا ومؤكدًا لمنظمة أوبك.
أوبك في الثمانينيات
في الثمانينيات من القرن العشرين، بدأت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) تحديد أهداف إنتاجية لأعضائها، حيث يرتفع سعر النفط عادةً عندما يتم تخفيض الإنتاج. تأسست أوبك كمنظمة حكومية دولية في عام 1960، وتضم حاليًا 13 دولة، هي الجزائر وأنغولا وغينيا الاستوائية والغابون وإيران والعراق والكويت وليبيا ونيجيريا وجمهورية الكونغو والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وفنزويلا. يقع مقرها الرئيسي في فيينا، النمسا، وهدفها الرئيسي هو تنسيق إنتاج النفط وتحديد أهداف إنتاجية لأعضائها، وهو يؤثر على الأسعار وقد يتحكم فيها. بالإضافة إلى أعضائها الأصليين، انضمت 23 دولة مصدرة للنفط إلى “أوبك بلس”، ووقعت اتفاقًا في عام 2016 بهدف خفض الإنتاج لتحسين الأسعار واستعادة التوازن في السوق. في الماضي، كانت أوبك تضم أعضاء آخرين مثل الإكوادور وإندونيسيا وقطر.
تغير الصورة وموازين القوى في التسعينيات
تغيرت الوضعية تمامًا خلال التسعينيات، حيث أتاح النمو في إنتاج النفط الخام في مناطق مثل بحر الشمال واكتشاف النفط الصخري وزيادة الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء سوق للعقود الآجلة. أسهمت هذه السوق الجديدة في تغيير ديناميكيات السوق النفطية، ما أدى إلى شعور بوجود إمكانيات عرض لا حدود لها وسهولة الوصول إليها عالميًا. بصفة أساسية، تغيرت الرؤية التقليدية للسوق بحيث انتقل مركز الجاذبية من الدول المنتجة إلى أسواق المشتقات المالية المرتبطة بالنفط. أحدث هذا التحول تغييرات جوهرية في كيفية إدارة شركات النفط ومرافق التكرير.
انقلب الوضع مع تقلص الدور التحكمي لأوبك في الأسعار، نظرًا لانخفاض حجم إنتاجها العالمي لمنطقة الشرق الأوسط إلى حوالي ثلث إجمالي إنتاج النفط في عام 2022. تحول مركز الثقل في الإنتاج نحو الولايات المتحدة، التي تنتج نصف إنتاج منطقة الشرق الأوسط، وتفوقت على المملكة العربية السعودية. في الوقت نفسه، ظهرت مناطق جديدة في الغرب بفضل تكنولوجيا النفط الصخري القادرة على الإنتاج. عانت العديد من الدول العربية المنتجة من التحديات مثل غزو الكويت والعراق والاضطرابات في العراق وليبيا والسودان واليمن، إلى جانب أزمات اقتصادية في دول أخرى مثل سوريا ولبنان والمغرب العربي وتونس ومصر.
خلال هذه العقود الخمسة، نجحت الدول الغربية في استغلال قوتها وتكنولوجياتها لتحويل معادلة إنتاج النفط بالكامل. وعندما سُئل الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي مؤخرًا عما إذا كان ينبغي على الدول العربية تقليل إنتاج النفط ردًا على “إسرائيل”، أكد أن “مجلس التعاون الخليجي ملتزم بأمن الطاقة، وأنه لا ينبغي استخدام النفط كسلاح”.
وأشار إلى أن المجلس يعمل بشفافية كشريك مسؤول في دوره كدول مصدرة للنفط مع المجتمع الدولي، وأنه لا يمكن استخدام النفط كوسيلة عسكرية بأي شكل من الأشكال. أشار فاتح بيرول، المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة إلى تحولات جيوسياسية أثرت على توفر النفط والغاز الطبيعي وأسعارهما.
هل تتحكم الدول المنتجة للنفط في أسعاره؟
للرد على هذا السؤال، منذ مدة طويلة، كانت أسعار النفط تتجاوز مجريات السيطرة من قبل الجهات الرئيسية في الصناعة والإنتاج وسوق النفط، ولم تعد أيٌّ منها قادرة على التحكم فيها أو توجيه مسارها. وبالرغم من أن تصوّر معظم المستهلكين الغربيين لأسعار النفط ما زال مرتبطًا بالتوازن الذي نشأ في السبعينيات والثمانينيات مع ظهور أوبك والدول الخليجية، إلا أن هذا الاعتقاد غير دقيق.
اليوم، عندما تشهد الأسعار ارتفاعًا غير مسبوق، يتم التركيز على اجتماع وزراء النفط في أوبك، ومعظم المراقبين يشعرون بعجزهم عن تحديد مسار الأسعار. هناك من يشير إلى المضاربة القوية وتدفق الأموال بشكل مفرط عبر الأدوات المالية المرتبطة بالنفط، ما دفع الأسعار إلى مستويات أعلى من قيمتها “الأساسية”.
ومن المعروف أن صناديق التحوط والمشتقات المالية نشطة جدًا في سوق النفط، ما جعل حجم المعاملات النفطية يتجاوز المعاملات التجارية العادية. ومع ذلك، يشكك بعض المراقبين في طبيعة المضاربة خلال الأزمات ومنها جائحة كوفيد 19 في إثبات أن الأسس الأساسية للعرض والطلب قد تغيرت بشكل كبير خلال هذه الفترة.
وقد تمكنت البلدان المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمهارة من اجتياز المشهد الاقتصادي العالمي الصعب المحفوف بأجواء عدم اليقين. ولا يزال تأثير الصراعات الدائرة في المنطقة بوجه أعم على البلدان المصدرة للنفط قيد الاحتواء عموما نظرا لروابطها الاقتصادية المحدودة مع البلدان المتأثرة مباشرة بالصراعات ولأن استخدام الممرات التجارية البديلة وازن جزئيا أثر تراجع حجم تجارة البضائع. ومع ذلك، تسببت تخفيضات الإنتاج النفطي الطوعية التي أقرها تحالف “أوبك بلس” في كبح الإنتاج النفطي والأنشطة الاقتصادية ذات الصلة. وقد قام صندوق النقد الدولي بتعديل افتراضات متوسط أسعار النفط وتوقع أن تنخفض الأسعار تدريجيا من 81,3 دولار في المتوسط في 2024 إلى 67 دولارا في عام 2029 وهو ما يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي. علاوة على ذلك، تلعب التغيرات التكنولوجية والابتكارات في مجال الطاقة دورًا في تغيير طبيعة هذه العلاقة. يجب على صانعي السياسات أن يأخذوا جميع هذه العوامل بعين الاعتبار عند تحليل آثار ارتفاع أسعار النفط على الاقتصاد والتضخم.
ويشعر المواطن بشكل مباشر بارتفاع أسعار النفط من خلال أسعار البنزين، والذي يتأثر استهلاكه بتحسين كفاءة الوقود وزيادة استخدام المركبات الكهربائية؛ إذ انخفضت أسعار خام غرب تكساس الوسيط (WTI) من 85 دولارًا في يوليو إلى 70 دولارًا حاليًا، وكذلك خام برنت من 90 دولارًا إلى حوالي 75 دولارًا. مع ذلك، يُعتقد أن التوقعات بحدوث فائض كبير قد تكون مبالغًا فيها، إذ يمكن أن تستمر الصين في تخفيض مخزوناتها، وقد يقلل المنتجون في الغرب من إنتاجهم. بناءً على ذلك، نتوقع أن يستقر خام WTI عند 75 دولارًا للبرميل في الأشهر المقبلة.
ومع انخفاض استهلاك البنزين نتيجة لتحسين كفاءة الوقود وزيادة انتشار المركبات الكهربائية والهجينة، يتم التحكم في الطلب على البنزين. هذا التطور يقلل من اعتماد الاقتصاد العالمي على النفط، وقد يساعد في تخفيف الضغوط التضخمية الناتجة عن تقلبات أسعار النفط. كما أن زيادة الإنتاج في الولايات المتحدة، خاصةً في قطاع النفط الصخري، يعزز من استقرار العرض في السوق ويحد من ارتفاعات الأسعار الكبيرة.
ما هو الفائض السوقي؟
الفائض في السوق يحدث عندما يتجاوز العرض حجم الطلب، مما يؤدي عادة إلى انخفاض الأسعار. شهد العالم أربعة فوائض نفطية منذ 1985، صاحبتها زيادات في الإنتاج وتراجعات في الطلب. اليوم، يسهم انخفاض الطلب في تزايد المخاوف من تكرار هذه الحالة.
ما الذي يضعف الطلب؟
خفضت وكالة الطاقة الدولية (IEA) توقعاتها للطلب العالمي بين يونيو وأكتوبر 2024، مع تقليل تقديرات الطلب للربع الرابع من 2024 بمقدار 0.5 مليون برميل يوميًا وللربع الرابع من 2025 بمقدار 0.6 مليون برميل يوميًا، بسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني الناتج عن أزمة العقارات وتراجع الإنفاق الاستهلاكي. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، توقفت الدول الغربية عن شراء النفط من روسيا، لكن دولًا مثل الصين والهند عوضت الطلب بأسعار منخفضة. وإذا واجهت إيران صعوبات أكبر في بيع نفطها، فقد تتبع نفس النهج. تبقى أوبك قادرة على سد أي فجوات إنتاجية نتيجة التغيرات الجيوسياسية، مع امتلاكها طاقة احتياطية تقارب 5% من الإنتاج العالمي.
التوجه نحو الصين
وأمام تلك التحديات نري اتجاها نحو تعزيز العلاقة بين الصين والشرق الأوسط يمكن أن يؤثر بشكل كبير على قطاع الطاقة العالمي، خاصة بعد “اتفاقية بكين” لعام 2023. هذا التعاون قد يضيف 423 مليار دولار إلى التجارة السنوية في الطاقة بحلول عام 2030، بزيادة تتجاوز 10% عن التوقعات الحالية.
القطاعات الرئيسية المستفيدة تشمل الطاقة المتجددة والبتروكيماويات؛ حيث يُتوقع أن يُسرّع الشرق الأوسط انتقاله للطاقة المتجددة مستفيدًا من سلسلة توريد الصين، بينما قد يكتسب التعاون الصيني الشرق أوسطي حصة في سوق البتروكيماويات الأوروبية. وقد استثمرت السعودية 16 مليار دولار أمريكي في قطاع الطاقة الصيني خلال الأشهر الستة التي تلت توقيع الاتفاقية
النفط والغاز وخدمات حقول النفط قد تستفيد أيضًا، لكن بشكل أقل، إذ سيزداد حجم التجارة بين الصين والشرق الأوسط بما يقارب 9-12 مليار دولار في هذه المجالات.
تدخل الدول لتخفيف الأسعار
في مارس 2022، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن إطلاق نحو 180 مليون برميل من احتياطيات النفط الاستراتيجية للولايات المتحدة. وبالتوازي مع هذا القرار، أفرجت عدة دول من أعضاء وكالة الطاقة الدولية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، عن جزء من احتياطياتها النفطية الطارئة. وجاء هذا التنسيق الدولي بهدف الحد من ارتفاع أسعار النفط وتقليل تقلبات السوق، وسط الاضطرابات التي يشهدها سوق الطاقة العالمي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات على روسيا.
نحو استقرار التضخم من خلال كفاءة استهلاك الطاقة
من الضروري تحسين كفاءة استهلاك الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، مما يسهم في استقرار أسعار الطاقة وتقليل التضخم.
فالتحكم في استهلاك البنزين وتحسين كفاءة الطاقة يخفف من تأثير أسعار النفط على معدلات التضخم. ومع توقعات بوجود فائض في النفط في عام 2025، قد نشهد استقرارًا أو حتى انخفاضًا في الأسعار، مما يسهم في استقرار التضخم بشكل أكبر.
منذ عام 2013، شهدت الولايات المتحدة تحسينات ملحوظة في كفاءة استهلاك البنزين، حيث ارتفعت الأميال المقطوعة لكل جالون بنسبة 26.2%. وعلى الرغم من زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1.5%، وارتفاع عدد السكان بنسبة 8.7%، شهدت البلاد نموًا ملحوظًا في عدد المركبات بنسبة 17.4%، وزيادة في المسافات المقطوعة بنسبة 8.8%. كما ارتفع متوسط عمر المركبات بنسبة 9.4%، مما يعكس تزايد الاعتماد على المركبات للسفر والتنقل، رغم التحسن الكبير في كفاءة استهلاك الوقود.
الخلاصة
لا يزال النفط عنصرًا مركزيًا في التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية. ومع ذلك، مع تنامي التكنولوجيا الجديدة والابتكارات في مجال الطاقة المتجددة، يجب أن تُعيد الدول المنتجة للنفط التفكير في كيفية استخدام هذا المورد بشكل فعّال. يمكن أن تلعب أوبك دورًا مهمًا في تشكيل مستقبل الطاقة العالمية، لكن سيكون عليها التكيف مع التغيرات الحتمية في الأسواق والنظام الدولي.
في النهاية، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن للنفط أن يستعيد مكانته كأداة استراتيجية في السياسة الدولية، أم أنه سيظل تحت ضغوط التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة؟ المستقبل وحده هو من سيحدد الإجابة.
تجدر الإشارة إلى أن النفوذ الجيوسياسي للنفط لن يتلاشى تمامًا، لكن طريقة استخدامه قد تتغير، مما يتطلب استراتيجيات جديدة من قبل الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.