مقالات

الاحتياطي الفيدرالي يشتري الوقت: تثبيت أسعار الفائدة وسط ضبابية السياسات القادمة

كما كان متوقعًا، قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، وذلك بعد خفضها بمقدار 100 نقطة أساس خلال الاجتماعات الثلاثة الماضية. لم يكن هذا القرار مفاجئًا، حيث توقعه جميع المحللين الذين شملهم استطلاع “بلومبرغ”، خاصة بعد أن أشار الفيدرالي في اجتماع ديسمبر إلى أنه يخطط لتخفيضين فقط بمقدار 25 نقطة أساس طوال عام 2025.
الاقتصاد تحت المجهر: بيانات متضاربة وسوق عمل قوي
رغم قرار التثبيت، لا تزال البيانات الاقتصادية تقدم صورة مختلطة. فالنمو الاقتصادي في الربع الرابع من عام 2024 كان قويًا، بينما استمرت معدلات التضخم في التمسك بمستويات مرتفعة، مما يعكس ضغوطًا تضخمية لا تزال قائمة في سوق العمل. وأكد جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، أن البنك المركزي ليس في عجلة من أمره لتعديل سياساته النقدية، مشددًا على أهمية الصبر في التعامل مع هذه المعطيات.
على عكس بنك كندا، الذي خفض الفائدة وركز بشكل أساسي على النزاعات التجارية، بدا الفيدرالي الأمريكي أكثر تحفظًا، متجنبًا أي إشارات واضحة حول تأثيرات السياسات الاقتصادية المقبلة، وخاصة تلك التي قد تأتي من إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديدة. ومع ذلك، لم يغفل الاحتياطي الفيدرالي حقيقة أن التوقعات الاقتصادية لا تزال محاطة بمخاطر غير محسوبة، حيث قال باول: “من طبيعة البشر التقليل من حجم المخاطر القصوى في الاقتصاد… فقد تحدث أمور خارج نطاق توقعاتك.”
ثلاثة محاور رئيسية لتوجهات الفيدرالي في المرحلة المقبلة

1- التركيز على التضخم يعود إلى الواجهة


أجرى الفيدرالي تعديلات طفيفة على بيانه الأخير، حيث حذف الإشارة إلى “التقدم” في السيطرة على التضخم، ما يعكس قلقًا متزايدًا بشأن استمرارية الضغوط التضخمية. وعلى الرغم من أن باول حاول التقليل من أهمية هذا التغيير، إلا أن البيانات تشير إلى أن التضخم في قطاع الخدمات لا يزال “عنيدًا”، خاصة مع بقاء سوق العمل في وضع قوي.

تشير توقعات التضخم إلى استمرار تراجع تضخم السكن في الأشهر المقبلة، لكن بعض التحليلات ترى أن هذا الاتجاه قد ينعكس في النصف الثاني من العام. وإذا استمرت ضغوط الأجور المرتفعة نتيجة سوق العمل الضيق، فقد يصبح التضخم أكثر “التصاقًا”، ما يجعل من الصعب على الفيدرالي تبرير أي خفض قريب للفائدة.

2- الاعتماد على البيانات قد يعني مزيدًا من التوقف


أكد الفيدرالي مجددًا أنه سيظل “يعتمد على البيانات” في قراراته، لكن هذا النهج يخلق حالة من عدم اليقين في الأسواق. فمع استمرار معدلات البطالة عند مستويات منخفضة، والتضخم الذي لم ينخفض بالسرعة المطلوبة، قد يؤدي عدم وضوح الرؤية الاقتصادية إلى استمرار التوقف عن خفض الفائدة حتى منتصف العام.
عدم وضوح البيانات قد يكون نتيجة لعوامل استثنائية مثل تأثيرات الكوارث الطبيعية، أو الاضطرابات في سلاسل التوريد، أو حتى سياسات التعريفات الجمركية الجديدة. هذا يعني أن أي توقعات بشأن خفض الفائدة تظل رهينة للتطورات الاقتصادية خلال الأشهر المقبلة.

3- السياسات الحكومية في الظل… ولكن إلى متى؟


لم يذكر الفيدرالي أي تفاصيل حول سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية أو سياسات الهجرة أو تخفيضات الضرائب. لكن الأسواق تدرك أن أي قرارات كبرى في هذه الملفات قد تغير التوقعات الاقتصادية بشكل جذري. في هذا السياق، أوضح باول أنه لن يعلق على قضايا السياسة، لكنه أشار ضمنيًا إلى أن البنك المركزي يراقب هذه التطورات عن كثب.

التعريفات الجمركية الجديدة قد تؤدي إلى ارتفاع تكاليف السلع، مما يرفع التضخم الناتج عن جانب العرض، وهو ما لا يستطيع الفيدرالي التحكم فيه من خلال أدواته التقليدية. كذلك، فإن سياسات الهجرة قد تؤثر على سوق العمل، حيث قد يؤدي ترحيل العمالة غير النظامية إلى نقص في الأيدي العاملة، ما قد يزيد الضغوط على الأجور والتضخم.
ما المتوقع للفترة المقبلة؟

ما لم يحدث تغيير جذري في البيانات الاقتصادية، من المحتمل أن يواصل الفيدرالي تثبيت الفائدة حتى يونيو المقبل، مع احتمالية تخفيضها ثلاث مرات قبل نهاية العام. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو يظل عرضة للتغيير إذا بدأت سياسات الإدارة الجديدة في التأثير على التضخم والنمو الاقتصادي.

يبدو أن الاحتياطي الفيدرالي يحاول “شراء الوقت” من خلال التوقف المؤقت عن تعديل سياسته النقدية، منتظرًا وضوح الرؤية بشأن تأثير العوامل الاقتصادية والسياسية المقبلة. لكن مع استمرار التضخم فوق المستوى المستهدف، وضبابية السياسات الحكومية، قد يجد الفيدرالي نفسه مضطرًا للتحرك بطريقة أسرع مما يرغب، وهو ما سيضع الأسواق في حالة من التقلب المستمر خلال الفترة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى