التحرير المفاجئ للإيجارات.. آثار اقتصادية واجتماعية مقلقة

د. محمد جميل الشبشيري
“لن أستطيع دفع الإيجار الجديد، وليس لدي مكان آخر أذهب إليه” … هذه الكلمات القلقة رددتها سيدة ستينية تعيش في شقة بحي شعبي في القاهرة منذ أكثر من 40 عاماً، وتدفع إيجاراً شهرياً قدره 55 جنيهاً.
هذا القلق يشاركها فيه ملايين المصريين الذين يعيشون في وحدات سكنية خاضعة لقانون الإيجار القديم، في ظل التعديلات المقترحة التي تهدف إلى زيادة القيمة الإيجارية بما لا يقل عن 20 ضعفاً خلال 5 سنوات.
في المقال السابق، استعرضنا حجم مشكلة الإيجارات القديمة في مصر والتطور التاريخي لقوانين الإيجار. واليوم نسلط الضوء على الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة لتحرير العلاقة الإيجارية بشكل مفاجئ.
الآثار الاقتصادية على المستأجرين
* زيادة الأعباء المالية على الأسر محدودة الدخل
تشير دراسة أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إلى أن 65% من المستأجرين بنظام الإيجار القديم ينتمون إلى الشرائح محدودة ومتوسطة الدخل، وأن 40% منهم من كبار السن الذين يعتمدون على المعاشات التقاعدية.
زيادة الإيجار بمقدار 20 ضعفاً ستؤدي إلى ارتفاع نسبة الإنفاق على السكن من متوسط 5% حالياً إلى أكثر من 40% من دخل الأسرة، وهي نسبة تفوق المعدلات العالمية المقبولة (30%).
هذا سيؤثر سلباً على قدرة هذه الأسر على تلبية احتياجاتها الأساسية الأخرى مثل الغذاء والصحة والتعليم.
تقول إحدى المستأجرات: “راتبي التقاعدي 1500 جنيه، وأدفع إيجار 60 جنيهاً. إذا زاد الإيجار إلى 1200 جنيه، فماذا سيتبقى لي للطعام والدواء؟”
تأثير الزيادة على القدرة الشرائية والاستهلاك
تشير الدراسات الاقتصادية إلى أن زيادة الإيجارات بشكل مفاجئ ستؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية لملايين الأسر، مما سيؤثر سلباً على الاستهلاك المحلي.
انخفاض الاستهلاك سيؤثر على المبيعات والإنتاج في قطاعات مختلفة، خاصة السلع غير الضرورية، مما قد يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي على المدى القصير.
وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن انخفاض الاستهلاك قد يصل إلى 5-7% في السنة الأولى من تطبيق القانون، مما قد يؤثر على معدل النمو الاقتصادي بنسبة 0.5-1%.
ارتفاع معدلات التخلف عن سداد الإيجارات
مع الزيادة الكبيرة في القيمة الإيجارية، من المتوقع ارتفاع معدلات التخلف عن سداد الإيجارات، مما سيؤدي إلى زيادة النزاعات القضائية.
من المرجح أن تشهد المحاكم زيادة كبيرة في دعاوى الإخلاء وتأخير سداد الإيجارات، مما سيضغط على المحاكم المصرية التي تعاني أصلاً من تراكم القضايا.
هذا سيؤدي أيضاً إلى زيادة الأعباء المالية على الدولة لتغطية تكاليف التقاضي، وقد يؤثر على الاستقرار الاجتماعي.
الآثار الاجتماعية المحتملة
* تهديد الاستقرار السكني لملايين الأسر
من أخطر الآثار الاجتماعية المحتملة لتحرير الإيجارات القديمة بشكل مفاجئ هو تهديد الاستقرار السكني لملايين الأسر المصرية.
الاستقرار السكني من أهم مقومات الاستقرار الاجتماعي. فقدان المسكن أو التهديد بفقدانه يؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية خطيرة، خاصة لكبار السن الذين قضوا عقوداً في نفس المسكن.
وتشير دراسات اجتماعية إلى أن 70% من المستأجرين بنظام الإيجار القديم يعيشون في مساكنهم منذ أكثر من 30 عاماً، وأن 45% منهم تجاوزوا سن الستين.
تقول إحدى المستأجرات: “عشت في هذه الشقة منذ زواجي قبل 45 عاماً. هنا وُلد أبنائي وكبروا. كل ذكرياتي وحياتي في هذا المكان. لا أتخيل أن أعيش في مكان آخر في هذا العمر.”
تفاقم أزمة السكن وظهور العشوائيات
تحذر الدراسات من أن التحرير المفاجئ للإيجارات القديمة قد يؤدي إلى تفاقم أزمة السكن في مصر، وظهور مزيد من المناطق العشوائية.
مع عدم قدرة شريحة كبيرة من المستأجرين على تحمل الزيادة في الإيجارات، وعدم توفر بدائل سكنية ميسرة، قد يضطر البعض للانتقال إلى مناطق عشوائية أو غير مخططة، مما يزيد من الضغط على البنية التحتية والخدمات في هذه المناطق.
وتشير تقديرات إلى أن نحو 500 ألف أسرة قد تضطر للانتقال إلى مناطق أقل في مستوى المعيشة أو إلى مناطق عشوائية في حال تطبيق الزيادة المفاجئة في الإيجارات.
التأثير على التماسك الاجتماعي والعلاقات الأسرية
من الآثار الاجتماعية المقلقة أيضاً التأثير على التماسك الاجتماعي والعلاقات الأسرية.
الضغوط المالية الناتجة عن زيادة الإيجارات قد تؤدي إلى توترات في العلاقات الأسرية، وقد تضطر بعض الأسر للانتقال للعيش مع أقاربها، مما يؤدي إلى الازدحام السكني وما يصاحبه من مشكلات اجتماعية ونفسية.
كما قد تؤدي هذه الضغوط إلى تأخير سن الزواج للشباب، وزيادة معدلات الطلاق، وتفكك بعض الأسر.
زاوية المالكين: حقوق غائبة منذ عقود
وفي خضم الحديث عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتحرير المفاجئ للإيجارات القديمة، لا يمكن إغفال وجهة نظر الملاك القدامى، الذين عانوا لسنوات من تجميد العوائد الإيجارية، رغم ارتفاع تكاليف المعيشة والصيانة.
يشير الواقع إلى أن عدداً كبيراً من هؤلاء الملاك، لا سيما من ذوي الدخل المحدود، يعتمدون بشكل شبه كلي على عوائد الإيجار كمصدر دخل. وقد أصبحت هذه العوائد زهيدة للغاية لا تتجاوز في بعض الأحيان عشرات الجنيهات شهرياً، ما جعلهم غير قادرين على ترميم أو صيانة ممتلكاتهم. ونتيجة لذلك، تهالكت آلاف العقارات القديمة، مما يهدد السلامة العامة ويزيد الضغط على الدولة في ملف السلامة الإنشائية.
ورغم أن تحرير العلاقة الإيجارية يحمل مخاوف حقيقية للمستأجرين، فإنه بالنسبة لكثير من الملاك يُعد ضرورة إنصافية لاستعادة الحد الأدنى من العدالة الاقتصادية وحقهم المشروع في استثمار أملاكهم. لذا، فإن التوازن بين حقوق الطرفين يظل هو التحدي الأساسي، وهو ما يجعل النهج التدريجي في الإصلاح حلاً وسطاً مقبولاً يحقق العدالة دون الإضرار بالاستقرار الاجتماعي.
تأثير التحرير المفاجئ على سوق العقارات
* ارتفاع الطلب على الوحدات السكنية منخفضة التكلفة
من المتوقع أن يؤدي تحرير الإيجارات القديمة إلى زيادة الطلب على الوحدات السكنية منخفضة التكلفة، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها.
مع اضطرار شريحة كبيرة من المستأجرين للبحث عن بدائل سكنية أقل تكلفة، سيزداد الطلب على الوحدات السكنية في المناطق الشعبية والمدن الجديدة، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها بنسبة قد تصل إلى 30% في السنة الأولى.
هذا سيؤثر سلباً على الفئات محدودة الدخل التي تبحث عن سكن ميسر، وقد يؤدي إلى تفاقم أزمة السكن.
* تأثير متباين على أسعار العقارات حسب المناطق
تشير الدراسات العقارية إلى أن تأثير تحرير الإيجارات القديمة على أسعار العقارات سيختلف من منطقة إلى أخرى.
في المناطق التي تتركز فيها العقارات الخاضعة لقانون الإيجار القديم، مثل وسط القاهرة والإسكندرية، قد تنخفض أسعار العقارات المأهولة بالمستأجرين القدامى بنسبة 20-30% في المرحلة الأولى، نظراً للمخاطر المرتبطة بالنزاعات القضائية المحتملة.
أما في المناطق الجديدة والضواحي، فقد ترتفع الأسعار نتيجة زيادة الطلب من المستأجرين الباحثين عن بدائل سكنية.
تأثير التحرير المفاجئ على الاقتصاد المصري
* تأثير محدود على النمو الاقتصادي على المدى القصير
تشير التحليلات الاقتصادية إلى أن تأثير تحرير الإيجارات القديمة على النمو الاقتصادي سيكون محدوداً على المدى القصير، لكنه قد يكون إيجابياً على المدى الطويل.
على المدى القصير، قد يؤدي انخفاض الاستهلاك وزيادة النزاعات القضائية إلى تأثير سلبي محدود على النمو الاقتصادي. لكن على المدى الطويل، سيؤدي تصحيح تشوهات سوق العقارات إلى تحسين كفاءة الاقتصاد وزيادة الاستثمار في قطاع العقارات.
* تأثير إيجابي على قطاع البناء والتشييد على المدى الطويل
من المتوقع أن يؤدي تحرير الإيجارات القديمة إلى تنشيط قطاع البناء والتشييد على المدى الطويل.
مع تحسن العائد على الاستثمار في العقارات، سيزداد الإقبال على بناء وحدات سكنية جديدة للإيجار، مما سينشط قطاع البناء والتشييد والصناعات المرتبطة به، ويخلق فرص عمل جديدة.
كما سيؤدي ذلك إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية في سوق الإيجار، مما سيساهم في استقرار الأسعار على المدى الطويل.
هل هناك بدائل للتحرير المفاجئ؟
في ظل المخاوف من الآثار السلبية للتحرير المفاجئ للإيجارات القديمة، تطرح الدراسات بدائل وحلولاً وسطية.
يمكن تبني نهج تدريجي في تحرير الإيجارات القديمة، مع فترة انتقالية أطول (8-10 سنوات)، وزيادات سنوية متدرجة بدلاً من الزيادة الكبيرة دفعة واحدة.
كما يمكن تصنيف العقارات والمناطق، وتطبيق نسب زيادة مختلفة حسب الحالة الإنشائية للعقار وموقعه وقيمته السوقية.
من الضروري أيضاً توفير آليات فعالة للدعم الاجتماعي للفئات الضعيفة، مثل كبار السن وذوي الدخل المحدود، من خلال برامج دعم الإيجار أو توفير بدائل سكنية ميسرة.
دروس من تجارب دولية مماثلة
تشير تجارب دول أخرى واجهت مشكلات مماثلة إلى أن التحرير المفاجئ للإيجارات القديمة قد يؤدي إلى آثار اجتماعية واقتصادية سلبية.
تجربة بعض الدول التي طبقت تحريراً مفاجئاً للإيجارات، مثل بعض دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أدت إلى أزمات سكن حادة وتشرد آلاف الأسر.
في المقابل، نجحت دول أخرى مثل فرنسا والأردن في تبني نهج تدريجي مع توفير آليات للدعم الاجتماعي، مما ساهم في تحقيق انتقال سلس نسبياً.
وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في المقال القادم من هذه السلسلة، حيث نستعرض تجارب دولية في التعامل مع أزمة الإيجارات القديمة.
في المقال القادم: “دروس من العالم.. كيف تعاملت الدول مع أزمة الإيجارات القديمة؟” – نستعرض تجارب الأردن ولبنان وفرنسا وغيرها من الدول في تحرير أسواق الإيجارات.