مقالات

المنحدر الزلق: كيف يتسلل الفساد المؤسسي؟

 

هل الفساد ظاهرة مفاجئة، أم هو نتيجة حدث منفرد؟ أسئلة كثيرة تدور في فلك الفساد الإداري، ولكن من خلال خبراتنا المؤسسية وتأكيدا لنتائج تحاليل الخبراء في الإدارة يظهر أن الفساد عملية متدرجة، تنمو في زوايا الصمت وتتسلل بين ثنايا المبررات. وقد يُفاجَأ البعض حين يكتشفون أن بذور الفساد غالبًا ما تُزرع بنوايا “حسنة”، أو تحت ضغوط تفرض نفسها على بيئة العمل. يبدأ الفساد المؤسسي غالبًا من تساهلات صغيرة، تتغذى على الضغط، وتترعرع في غياب الرقابة، وتُبرَّر بثقافة التبرير التي تُشرعن الأخطاء. ولكي نفهم هذه الظاهرة، نحتاج إلى تفكيكها من خلال مثلث الفساد الشهير: الضغط، الفرصة، التبرير.

 

الضلع الأول: الضغط – البوابة الخفية للفساد

من هنا تبدأ القصة. حين توضع المؤسسات تحت ضغوط غير واقعية لتحقيق نتائج سريعة، أو عندما تُربط المكافآت والترقيات بتحقيق أهداف قصيرة المدى دون النظر إلى الأساليب المتبعة، يشعر الأفراد بأن عليهم “التحايل” على بعض القواعد. قد يبدأ الأمر بمخالفة بسيطة، مثل تعديل طفيف في الأرقام أو توقيع مستعجل على مستند دون مراجعة كافية، تحت مبرر “الضرورة” أو “مصلحة العمل”. وقد يقال حينها: “الوقت لا يسمح”، أو “لسنا في وضع يسمح بالتدقيق الكامل”.

هذه التجاوزات، وإن بدت بسيطة، تشكّل الشرارة الأولى. لأن من يتجاوز القاعدة مرة لأجل “الضرورة”، قد يجد نفسه يفعل ذلك مجددًا دون تفكير. وبمرور الوقت، تصبح هذه التصرفات نمطًا مؤسسيًا، يُكرَّس باسم “المرونة” أو “الخبرة”، بينما هي في الحقيقة تنازلات تمهد الطريق لانهيار معايير النزاهة.

الضغط إذًا لا يبرر الفساد، لكنه كثيرًا ما يكون بيئة حاضنة له، خصوصًا إذا لم تكن هناك ضوابط تحكم كيفية التعامل مع تلك الضغوط.

 

الضلع الثاني: الفرصة – حين تغيب الرقابة وتنحسر الحوكمة

الفساد لا ينمو فقط تحت الضغط، بل يحتاج أيضًا إلى غياب الرقيب. في المؤسسات التي تفتقر إلى سياسات حوكمة فعّالة، أو في تلك التي تُمنح فيها الثقة المطلقة لأشخاص دون آليات للمساءلة، يُفتح الباب واسعًا أمام التجاوزات. تُخفى حينها التفاصيل الدقيقة، وتُزيَّن التقارير، وتُحجب المخاطر في ملاحق غير مقروءة، أو تُغلف البيانات بعروض تقديمية بصرية تُبهر أكثر مما تشرح.

تُمرر القرارات دون مراجعة، ويتم التصويت على مشروعات بملايين، أو توقيع عقود استراتيجية، في اجتماعات لا تتجاوز بضع دقائق، لأن “الوقت لا يسمح بالتأجيل” أو “الموضوع تمت دراسته مسبقًا”. ولكن الحقيقة هي أن كثيرًا من هذه القرارات تمر دون تدقيق حقيقي، ويُمنع أحيانًا أي نقاش يُشكك أو يستفسر.

البيئة الرقابية الضعيفة لا تعني فقط غياب المراقب أو المدقق، بل تعني – قبل ذلك – غياب ثقافة المساءلة، وغياب نظام مؤسسي يربط الأداء بالشفافية، والسلطة بالمسؤولية.

 

الضلع الثالث: التبرير – صناعة ثقافة تسمح بالفساد

حتى في ظل وجود ضغط وفرصة، لا يزدهر الفساد إلا عندما يجد له تبريرًا. هنا يظهر الدور الأخطر: الذهنية التبريرية. حين تُقال عبارات مثل: “الجميع يفعل ذلك”، أو “الغاية تبرر الوسيلة”، يبدأ الخطر الحقيقي. يتلاشى الحد الفاصل بين الخطأ والصواب، وتُصبح النزاهة موضع سخرية أو اتهام بالسذاجة. يُكافأ من “يسهّل الأمور”، ويُقصى من “يعقّدها” بالسؤال والتدقيق.

هذا النوع من التبرير لا يكتفي بإقناع الفرد بأنه ليس مخطئًا، بل يُقنعه أنه يفعل الصواب، وأنه يُسهم في “المصلحة العامة”، بل وقد يُمنح وسام “الفعالية” و”النتائج” لأنه عرف كيف “يلف ويدور” لتحقيق المطلوب.

التبرير هو العدو الخفي الذي يحوّل السلوك الفاسد إلى ممارسة مقبولة، ويجعل من الحديث عن الأخلاق أمرًا مثيرًا للريبة. وهو ما يقود تدريجيًا إلى بناء ثقافة مؤسسية قائمة على “التساهل” و”المجاملة”، لا على النزاهة والشفافية.

 

الفساد لا يعيش في الظلام وحده

من الأخطاء الشائعة أن نعتقد بأن الفساد لا يظهر إلا في الظل. على العكس، كثير من أشكال الفساد تنمو تحت الأضواء، وفي الاجتماعات الرسمية، والقرارات الموثقة. لكنه يزدهر حين تُختزل الحوكمة في الشكل دون المضمون، وتُملأ الملفات بالنماذج والسياسات دون أن تُطبق فعليًا.

الفساد لا يحتاج إلى بيئة فاسدة بالضرورة، بل يكفي أن تُهمّش فيها أصوات النقد، ويُستبعد منها من يطرح الأسئلة الصعبة. كلما صمت العقلاء، وانتشر الخوف من المواجهة، كبرت دائرة الفساد. فليس كل من يصمت فاسد، ولكن صمت البعض هو ما يمنح الفساد مساحته للنمو.

 

الخطوة الأولى ليست دائمًا جريمة

ما يغفل عنه الكثيرون أن الفساد المؤسسي لا يبدأ بصفقة كبيرة مشبوهة أو رشوة ضخمة، بل قد يبدأ بتنازل صغير يُبرّر، أو توقيع سريع دون مراجعة، أو تأجيل التدقيق إلى “وقت لاحق”. وحين تُكرَّس هذه التنازلات كأمر طبيعي، يصبح من الصعب تمييز الانحراف عن القاعدة، لأن القاعدة نفسها تغيرت.

الخطورة تكمن في أن تساهل اليوم قد يكون كارثة الغد. والمبررات التي تُقال اليوم لتجاوز القواعد، قد تُستخدم لاحقًا لتبرير مخالفات أكبر. وهكذا يتحوّل الفساد إلى نظام غير معلن، يعيش داخل الأنظمة واللوائح، لكنه يقتل روحها ومضمونها.

 

معركة لا تُكسب إلا باليقظة الدائمة

وأخيرا نؤكد بأن مكافحة الفساد ليست مهمة لجهاز تفتيش أو ديوان رقابة فقط، بل هي مسؤولية كل فرد داخل المؤسسة. تبدأ من ثقافة تؤمن بأن النزاهة ليست عائقًا أمام الإنجاز، بل شرطًا لتحقيقه. وأن الشفافية ليست إجراء شكليًا، بل روح العمل المؤسسي.

وأن الحوكمة الحقيقية لا تعني تكديس السياسات، بل تعني أن يشعر كل شخص أن عليه مسؤولية، وأن كل قرار يُحاسَب عليه. وأن النقد لا يُقابل بالتجاهل، بل بالاستماع والتفكير.

كما أن الفساد قد يبدأ من مثلث الضغط والفرصة والتبرير، لكنه يُهزم بمثلث آخر: الشفافية، المساءلة، والثقافة المؤسسية الواعية.

وحين ينطق المخلصون ويعلو صوتهم، يتراجع الفساد، مهما بلغت قوته.

عماد الحسين

الرئيس التنفيذي لشركة الحوكمة والالتزام

وأخصائي الحوكمة والتطوير المؤسسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى