المواجهة القانونية لجريمة غسل الأموال ومدى تأثير هذه الجريمة على الاقتصاد الدولي

بقلم: الدكتور/ جلال سعد عثمان مستشار قانوني
فبسم الله مٌجري ” هذه المقالات ” وبأنعم الله وأفضاله يطيب مسيرها ويُحمد إن شاء الله عُقباها ومُرساها. وبسم الله تعالى وعلى بركته أقدم هذه المقالات بين يدي رجال القانون والاقتصاد آملاً كل الأمل في أن تملأ فراغاً وأن تٌسد حاجة، وأن تفي ببعض الغرض وقد انتويت فيها – بمشية الله – أن أتناول بالشرح والتعليق على جريمة غسل الأموال … ومدى تأثير هذه الجريمة على الاقتصاد الدولي.
الإطار العام للبحث.
ليس من ريب أن ظاهرة غسل الأموال باتت تشكل هاجساً مؤرقاً للدول، نظراً لأبعادها السلبية على المستويين الدولي والمحلي في المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
ولا شك أن انتشار هذه الظاهرة على المستوى الدولي يقطع الشك بأنها ظاهرة تتسم بالخفاء والدقة والتقنية العالمية في تنفيذها ، مما جعل حجمها خطيراً على اقتصاديات الدول إذ يقدر بنحو خمسمائة بليون دولار سنوياً ، كما أن الرابط بينهما وبين ما يسمى بالإرهاب الدولي قائم وقوي ، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أساليبها المتنوعة ، ومن أهمها تواطؤ المؤسسة المصرفية ، تغيير العملة ، سمسرة الأوراق المالية ، التحويل النقدي بأنواعه المختلفة ، شركات الطيران ، بطاقات الائتمان ، تبني المشروعات المهددة بالإفلاس والدخول فيها بالعائد غير المشروع …الخ
ولا شك أن غاسلي الأموال يسعون في تنفيذ أساليبهم السابقة لاختيار دول سهلة الاختراق سواء لأنها تتمسك بصورة مطلقة بقانون سرية الحسابات المصرفية فيحتمون بمصارفها التي تمثل المركز الأساسي لهم، أو لأنها – كما يقول سعود عبد العزيز المريشيد في كتاب جرائم غسل الأموال، مؤتمر القانون وتحديات المستقبل – كلية الحقوق – جامعة الكويت ص859: “تتساهل في وضع تشريعاتها فلا تتطلب التدقيق عند إجراء العمليات المالية بمؤسساتها المصرفية التي لا توجد عليها رقابة محكمة من قبل البنك المركزي، كما لا يوجد بها نصوص لتجريم عمليات غسل الأموال ” أ هـ.
المشكلة البحثية:
وتكمن مشكلة الدراسة في أن جريمة غسل الأموال تتميز بطابع خاص ومركب ، حيث أنها تتطلب توافر شرط مفترض وهو وقوع نشاط إجرامي يحصل منه الجاني على الأموال غير المشروعة ، وقد يكون هذا شرط جريمة معاقب عليها مما يستتبع محاكمة الجاني عنها بالإضافة إلى محاكمته عن جريمة غسل الأموال لذلك اعتبر البعض أن ذلك يشكل انتهاكاً لقاعدة أساسية وهي عدم جواز محاكمة الجاني عن الفعل الواحد مرتين ، والبعض الآخر اعتبر أن هذه الجريمة لا تعدو إلا أن تكون عنصراً مادياً ينبغي استظهاره عند الحكم الصادر بالإدانة لذلك كان يجب توضيح هذه النقاط وبيان أحوال الارتباط بين الجريمتين وأثره في توقيع العقوبة .
ثمة فجوة بحثية في قانون مكافحة غسل الأموال المصري.
فقد أصدر المشرع المصري قانون مكافحة غسل الأموال رقم 80 لسنة 2002 المعدل بالقانون رقم 78 لسنة 2003، والقانون رقم 181 لسنة 2008، والقرار رقم 36 لسنة 2014 لحماية المجتمع المصري من أخطار جريمة غسل الأموال، وتنفيذاً لالتزاماته الدولية في تجريمها. ظهرت لي فجوة بحثية تمثلت في بيان منهج وفلسفة المشرع المصري في تجريم عمليات غسل الأموال ومدى فاعلية النصوص التي تضمنها هذا القانون في مواجهتها، وتأسيساً على ذلك، سأصوغ مشكلة البحث في شكل سؤال رئيسي يتفرع منه مجموعة من الأسئلة على النحو التالي:
ما هي جريمة غسل الأموال، وما منهج وفلسفة المشرع المصري وتشريعات مكافحة غسل الأموال المقارنة (الكويت نموذجاً) في تجريمها، وبيان الجوانب الموضوعية والإجرائية لها، وما مدى فاعلية هذه التشريعات لمواجهتها ؟
ويتفرع عن هذا السؤال السابق مجموعة من الأسئلة الفرعية سأجري الحديث عنها وأضعها في مكانها من البحث.
أهمية البحث من الناحية العلمية والعملية:
أما عن أهمية البحث من الناحية العلمية فلا شك إن الدراسات المقدمة حول هذا الموضوع لا تزال في طور البداية ، ومازالت مكتبتنا العربية بحاجة إلى المزيد من الدراسات حول هذا الموضوع الذي لم تتحدد معالمه ، ولم تستوعب أركان التجريم فيه ، وكيفية التحقيق وانطلاق الدعوى العمومية فيه ، فكان لزاماً على الفقه العربي – وكما هو معتاد منه – أن يحمل قبس نور ، ومشعل هداية لإضاءة الطريق أمام رجال القانون من قضاة ومحامين وفقه وأفراد يتعطشون للمعرفة حول هذا الموضوع بشكل يغلب عليه الطابع القانوني لا الاقتصادي ، الذي استفاض فيه نخبة سبقتنا بالعلم والمعرفة .
ومن ناحية أخرى:
فالمعلوم عن هذا الجريمة أنها جريمة مركبة من جريمتين: الجريمة الأولى، تعتبر جريمة أولية ضرورية ينتج منها مال، والجريمة الثانية، تعتبر تبعية يٌرتكب من خلالها فعل غسل الأموال. ولا شك أن بحثاً في هذه الزاوية له أهميته بسبب ما يثار من تساؤلات تحتاج إلى مزيد من الدراسة منها.
ما حقيقة الجريمة الأولى؟ ومن الذي يحدد عدم مشروعية الفعل المكون لها؟ وهل من شانها أن تؤثر في عقوبة جريمة غسل الأموال؟ وما حقيقة استقلاليتها عن تلك الأخيرة بالنظر إلى الفاعل في كل منهما؟ وهل هناك حاجة إلى النص على تجريم فعل غسل الأموال في ظل وجود تشريعات تجرّم أفعال الإخفاء ضمن قواعدها العامة؟ ومن هو الشخص المعنوي المقصود كفاعل هذه الجريمة؟
وكيف يمكن لنا الفصل في مسألة علم فاعل غسل الأموال بعناصر التجريم على الرغم من عدم اقترافه لبعضها وتعقيد بعضها الآخر، وما حقيقة توافر إرادته فيما لو كان مؤسسة مصرفية تابعة تعمد لتنفيذ سياسة مؤسسة مصرفية متبوعة؟
كل تلك التساؤلات من شأن الإجابة عنها أن تعطي تصوراً شاملاً لحقيقة عناصر التجريم فتفتح أمامنا ما قد يعتري النص على هذه الجريمة من سلبيات مما يعنينا على تداركها مستقبلاً.
أما الأهمية العملية للمجتمع بوجه عام:
فلا شك أن هذا البحث – على تواضعه – من شأنه أن يقرع الأسماع ويلفت أنظار الدول والمجتمعات إلى أثار هذه الجريمة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
أما عن أضرار غسل الأموال من الناحية الاقتصادية فهي أضرار متعددة تؤثر على دخل الدول وإيراداتها وعلى توزيع هذا الدخل، وعلى ادخار الدول، وعلى عملائها وعملتها الوطنية وتتجلى هذه الأخطار في:-
1- استنزاف الاقتصاد الوطني.
2- ويترتب عليها ركود اقتصادي.
3- وانخفاض معدلات نمو الناتج المحلي والإجمالي.
4- زيادة العجز في ميزان المدفوعات وارتفاع المديونية الخارجية.
5- وانخفاض قيمة سعر صرف العملية الوطنية.
6 – وارتفاع سعر الفائدة على العملة المحلية.
أما عن أضرار غسل الأموال القذرة من الناحية الاجتماعية فهذا سيكون موضوع حديثنا القادم في المقال الثاني.