مقالات

“خراب مالطا”

بقلم: المهندس مشعل الملحم

صُدمتُ حين رأيتُ جبلًا في لبنان، قد بُترت أشجاره في إحدى صفحاته، وعُرّيت تربته، واقتُلعت أحجاره، واصفرت أرضه، وكأن حيوانًا مفترسًا قد انقضّ على غزالةٍ جميلة، فبقر بطنها، وأخرج أحشاءها، وترك جسدها يحتضر، كان الجبل من حولي أخضرَ، عدا تلك الزاوية التي اجتُثّ غطاؤها، كمَن سَلخ الجلدَ عن وجهٍ جميل، فبانت عظامه وهيكله.

وحين سألتُ صديقي اللبناني، وأنا مصدوم:

* هل حدث انهيارٌ أرضيّ هنا؟

أجابني باللهجة اللبنانية:

* حدَث اغتصاب لبكارة لبنان، وسرقة لمواردها. هيدي اسمها “مقالع”، بيقلعوا الأشجار كرمال يستخرجوا الأحجار، ويبيعوها! كلّ تاجر بلا أخلاق أخد له جبل وعم يعمل هيك فيه!

فسألته باستغراب:

* وأنت موافق؟

فردّ مستنكرًا سؤالي:

* تعوّدنا! شو بيطلع بإيدنا نعمل؟ ولو بيصحلي، بعمل متلن…

هنا أدركتُ أن لدى بعض البشر قدرةً على التكيّف مع الظروف، بطريقةٍ سلبية، وأنه قد يعتاد ما لا يُطاق، بل ويمارسه حين يتأقلم معه، وتذكرتُ ما حدث لطائرة الأرجنتين التي سقطت على قمم جبال الأنديز، وتعذّر وصول فرق الإنقاذ، فقام الركاب بأكل بعضهم بعضًا حين نفد طعامهم! كانوا يتركون الجثث ممددة بأحشاء مفتوحة، وكلّما جاعوا، عادوا للأكل منها. وحين وصلت أول طائرة إنقاذ إلى الموقع، صُدم القبطان وتقيّأ. فقالوا له: “أنت تقيأت لأنك لم تعتد، وحين تعتاد، ستفعل ما فعلنا، بل، إنْ دعتك الظروف، ستتلذذ بذلك…”. لذلك، قد يعتاد الإنسان اغتصابَ مكامنِ دولته، وتجريدَ جوفها. وأذكر في قصص أخرى أن الحكومة المصرية قد عانت من الفلّاحين المصريين في سقارة، الذين كانوا ينقبون عن الآثار لتهريبها وبيعها بشكل غير قانوني للأجانب، ويُقال إن حتى بعض الفلاحين المعارضين لهذا النهج، انخرطوا فيه حين أدركوا ألّا طائل من المقاومة. وعظم الجائزة! يبدو أن كل البشر وطنيّون… ما دامت السلطة حاضرة!”

“خراب مالطا”

هناك مصطلحٌ باللغة الإنجليزية يسمى.. Strip Mining، ويُقصد به: التجريد للموارد، أو التنقيب دون مراعاة لحمايتها أو ضمان استمراريتها. ولو نظرنا إلى حالنا في دول الخليج، نتساءل: هل نقوم نحن أيضًا بتجريد لمواردنا النفطية؟
بعض الدول النفطية تمارس الاستخراج الجائر والبيع الدؤوب لتغطية رفاهيتها، والإنفاق على مصاريفها، دون العمل على الحفاظ على مواردها أو محاولة تجديدها، وفي المقابل نجد أنه حين تعرّت الغابات لصناعة الورق والأقلام وخشب التدفئة، اشترطت الحكومات الكندية على التجار أن يزرعوا، مقابل كل شجرة تُقطع، عددًا معينًا من الأشجار، حفاظًا على الموارد الطبيعية، ومنعًا لفنائها. ولكن، هل يا تُرى، مقابل كل برميل نفط تستخرجه الدول النفطية، سنحقن برميلين في الأرض؟ لا يبدو هذا الحل منطقيًا…لكن الحل المنطقي هو تنويع مصادر الدخل بقوة، وتخفيض الاعتماد على النفط كمصدرٍ أساسي، وتكرير المشتقات النفطية، وذلك قبل نضوبه… وخراب مالطا!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى