مقالات

الفيدرالي تحت النار… هل يرضخ للضغوط أم يحافظ على استقلاليته؟

بقلم – ليما راشد الملا

 

يمر الاقتصاد الأميركي هذه الأيام بواحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخه الحديث، إذ تتقاطع إشارات تباطؤ سوق العمل مع جدل سياسي محتدم حول مستقبل أسعار الفائدة. وبينما يترقب المستثمرون اجتماع البنك الفيدرالي الأميركي في 16 و17 سبتمبر، تتصاعد التساؤلات حول ما إذا كان البنك سيستجيب لضغوط الرئيس دونالد ترامب ويمضي نحو خفض كبير في الفائدة، أم سيواصل تمسكه باستقلاليته وإعلاء لغة الأرقام والحرص على كبح التضخم، حتى لو كلّفه ذلك المزيد من التوتر مع البيت الأبيض.

سوق العمل يبعث إشارات إنذار

أعلن مكتب إحصاءات العمل الأميركي أن الاقتصاد أضاف فقط 22 ألف وظيفة جديدة الشهر الماضي، فيما ارتفع معدل البطالة من 4.2% إلى 4.3%. قد يبدو هذا الفارق ضئيلاً على الورق، لكنه في الواقع يحمل دلالات عميقة؛ إذ اعتاد الاقتصاد الأميركي في سنوات النمو أن يخلق مئات الآلاف من الوظائف شهريًا، وهو ما يؤكد قوة الطلب وحيوية الشركات. أما اليوم، فإن تقلص الرقم إلى هذا الحد يشير إلى أن السوق بدأ يتباطأ وأن الشركات باتت أكثر حذرًا في قرارات التوظيف وربما تواجه تراجعًا في مستويات الطلب.

ارتفاع البطالة ولو بنسبة 0.1% فقط يُعد مؤشرًا حساسًا للغاية، لأن استمراره لعدة أشهر متتالية قد يعني أن الاقتصاد يتجه نحو تباطؤ ممتد وربما نحو ركود تقني، وهو ما يضع ضغوطًا إضافية على صناع القرار النقدي.

ترامب والفيدرالي: معركة حول الفائدة

في خضم هذه الأجواء، يتمثل الخلاف بين الرئيس الأميركي والفيدرالي كأحد العناوين الأكثر أهمية. ترامب لا يخفي رغبته في خفض أسعار الفائدة بشكل كبير، بل إنه صرّح أكثر من مرة أن الاقتصاد الأميركي قوي بالفعل، لكن تخفيض الفائدة سيجعله “أفضل وأقوى”. بالنسبة له، الفائدة المنخفضة تعني تحفيز الاستثمار، زيادة الاستهلاك، تعزيز النمو، وخفض كلفة الاقتراض على الحكومة الأميركية نفسها.

في المقابل، يقف الفيدرالي موقفًا أكثر تحفظًا، محذرًا من أن أي خفض سريع أو مبالغ فيه قد يؤدي إلى اشتعال التضخم مجددًا ويقوّض استقرار الأسعار، وهو ما يتعارض مع مهمته الأساسية. الفيدرالي يرى أن إدارة السياسة النقدية يجب أن تستند إلى البيانات الاقتصادية لا إلى الضغوط السياسية، خاصة في وقت ما زالت فيه آثار التضخم مرتفعة نسبيًا.

استقلالية الفيدرالي خطر أحمر في نظر أوروبا

في الأول من سبتمبر 2025، خرجت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، بتحذير لافت، إذ اعتبرت أن محاولات ترامب للتأثير على استقلالية الفيدرالي تمثل خطرًا جسيمًا على الاقتصاد العالمي، مؤكدة أن فقدان هذه الاستقلالية أمام إملاءات سياسية ستكون لها آثار مقلقة للغاية ليس فقط على استقرار الاقتصاد الأميركي، بل على بقية العالم أيضًا، خصوصًا وأن الولايات المتحدة تمثل الاقتصاد الأكبر عالميًا. لاغارد أشارت كذلك إلى أن ترامب صعّد هجماته على رئيس الفيدرالي جيروم باول، بل حاول الشهر الماضي إقالة ليزا كوك، إحدى محافظات الفيدرالي، في خطوة أثارت جدلاً قانونيًا واسعًا، لكنها شددت في الوقت نفسه على أن الرئيس الأميركي يواجه صعوبات عملية في فرض إرادته، إذ إن القانون لا يسمح بإقالة المحافظين إلا في حالات سوء السلوك الجسيم. ومن هنا شددت على أن الفيدرالي حتى الآن يبقى صمام الأمان للاقتصاد الأميركي وعنصرًا رئيسيًا في ثقة الأسواق العالمية بالدولار.

معضلة الفيدرالي

يقف الفيدرالي اليوم بين مطرقة الضغط السياسي وسندان البيانات الاقتصادية. فمن جهة، يواجه دعوات متصاعدة من البيت الأبيض لخفض الفائدة بشكل جريء، ومن جهة أخرى يخشى أن يؤدي ذلك إلى فقدان السيطرة على الأسعار. هذه المعضلة تجعل اجتماعه القادم في منتصف سبتمبر بمثابة اختبار حقيقي لاستقلاليته ومصداقيته أمام العالم.

السيناريوهات المطروحة

إذا استجاب الفيدرالي لضغوط ترامب وخفّض الفائدة، ستنتعش الأسواق فورًا وترتفع شهية المخاطرة، لكن مصدر القلق هو احتمال تكوّن فقاعة مالية وتجدد الضغوط التضخمية. أما إذا قرر الإبقاء على الفائدة دون تغيير، فسيرسل رسالة قوية حول تمسكه باستقلاليته، لكنه سيغضب الأسواق التي تراهن على خفض قريب، وقد تكون النتيجة هبوطًا حادًا في الأسهم وتراجعًا واسعًا في قيم الأصول، مع حماية نسبية لاستقرار الدولار.

التداعيات على الاقتصاد العالمي

قرارات الفيدرالي لا تقف عند حدود الاقتصاد الأميركي، بل تمتد مباشرة إلى بقية العالم. أي تعديل في أسعار الفائدة سيكون له تداعيات فورية على أسواق العملات حيث يتحرك الدولار صعودًا أو هبوطًا، وعلى الاقتصادات الناشئة التي تتأثر بتدفقات رؤوس الأموال، وعلى أسعار السلع مثل النفط والذهب التي تتقلب مع تحركات العوائد الأميركية. ولذلك فإن اجتماع سبتمبر سيكون حدثًا عالميًا بكل معنى الكلمة، قد يرسم ملامح الربع الأخير من 2025 ويحدد اتجاه الاقتصاد العالمي برمته.

الصورة الحالية تكشف عن مفارقة دقيقة: سوق عمل يرسل إشارات ضعف، تضخم لم يُحسم بعد، رئيس يضغط بقوة لخفض الفائدة، فيدرالي متردد يخشى انفلات الأسعار، وأوروبا تحذّر من مغبة التدخل السياسي في استقلاليته. ويبقى السؤال الذي يحبس أنفاس الأسواق: هل سينحاز الفيدرالي إلى الرئيس والأسواق بخفض الفائدة، أم يغامر بمواجهة البيت الأبيض ويواصل سياسة الحذر، حتى لو دخل الاقتصاد في ركود قصير؟ الجواب سيحدد ليس فقط مستقبل الاقتصاد الأميركي، بل أيضًا مسار الاقتصاد العالمي خلال الأشهر المقبلة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى