مقالات

كيف تحوّل فول الصويا إلى أداة حرب اقتصادية؟

بقلم/ ليما راشد الملا

 

يبدو أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين لم تبقَ في حدود التعريفات الجمركية أو سباق التكنولوجيا فحسب، بل قررت أن تُهاجم مطبخك مباشرة. نعم، القصة بدأت من حبّة فول صويا، وانتهت إلى زيت قلي يقطر بالسياسة أكثر مما يقطر بالدهون.

فول الصويا — هذا المحصول المتواضع الذي اعتدنا أن نراه مجرد مكوّن في الأعلاف والزيوت — صار اليوم رمزًا للهيمنة الاقتصادية وأداة ضغط متبادلة بين أكبر اقتصادين في العالم. الصين، بصفتها أكبر مستورد لفول الصويا عالميًا، تعتمد عليه لإنتاج زيت الطعام، ولتغذية قطاع ضخم من الثروة الحيوانية. لكن مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية ثقيلة على الواردات الصينية، قررت بكين الرد بالمثل: إيقاف استيراد فول الصويا الأميركي والاتجاه نحو أسواق البرازيل والأرجنتين.

خطوة تجارية بدت في ظاهرها تكتيكية، سرعان ما كشفت عن عمقها كرمزٍ للمقاومة الاقتصادية. فواشنطن، التي لطالما نظرت إلى صادرات فول الصويا باعتبارها وسيلة لدعم مزارعيها في الغرب الأوسط، اكتشفت فجأة أن الحبوب التي تُزرع في حقولها يمكن أن تصبح سلاحًا ضدها في معركة النفوذ مع الصين.

ترامب، كعادته في قلب الطاولة، لم يتأخر في الرد. وبلهجة لا تخلو من التحدي قال ما معناه: “لا تريدون فول الصويا الأميركي؟ لا بأس. لن نشتري منكم زيت القلي. سننتجه بأنفسنا.” وهكذا تحوّل الزيت الذي يُستخدم لتحمير البطاطا إلى وقودٍ لنزاعٍ جيوسياسي تتجاوز كلفته مليارات الدولارات.

هذه الواقعة تكشف شيئًا عميقًا: الاقتصاد العالمي لم يعد مجرد منظومة إنتاج وتبادل، بل شبكة من المصالح المتشابكة التي يمكن أن تنهار بسبب ملعقة زيت.

إنها تذكير ساخر بأن العولمة التي وعدت بالترابط بين الأمم قد جعلت العالم هشًّا إلى درجة أن قرارًا واحدًا من واشنطن أو بيجين يمكن أن يغيّر أسعار السلع الغذائية في إفريقيا وآسيا.

من وجهة نظر اقتصادية بحتة، يمكن قراءة هذه الحرب على أنها إعادة توزيع قسرية لسلاسل الإمداد. الصين، بذكاء استراتيجي، وسّعت عقودها الزراعية مع البرازيل والأرجنتين، وخلقت شراكات طويلة الأمد تُقلّل من اعتمادها على السوق الأميركي. في المقابل، حاولت الولايات المتحدة إعادة هيكلة إنتاجها، وزيادة القدرة التكريرية في الداخل، لتقليل هشاشتها أمام الضغوط الخارجية.

لكن الخاسر الأكبر في هذه اللعبة ليس الصين ولا أميركا، بل المستهلك العالمي، الذي بات يدفع فاتورة سياسية على مائدة طعامه. فأسعار الزيوت النباتية شهدت قفزات حادّة، وسلاسل التوريد أصبحت أكثر تعقيدًا، بينما تعاني الأسواق الناشئة من تضخم غذائي متواصل.

ولمن ينظر بعمق إلى الصورة، فالأمر لا يتوقف عند فول الصويا. إنها إشارة إلى كيف يمكن لأي سلعة بسيطة أن تتحول إلى رافعة جيوسياسية، حين تتقاطع المصالح الزراعية مع الكبرياء الوطني. الحروب الحديثة لا تُخاض دائمًا بالدبابات، بل بالرسوم الجمركية والعقود التجارية.

من زاوية أخرى، يمكن القول إن ما حدث بين واشنطن وبكين دلّ على نهاية مرحلة من “الاعتماد المتبادل” وبداية عصر من “الاستقلال الحمائي”. كل دولة اليوم تسعى إلى امتلاك سلاسلها الإنتاجية كاملة لتأمين غذائها وطاقتها. إنها لحظة فاصلة في تاريخ الاقتصاد العالمي، حين أصبح “زيت القلي” مقياسًا للسيادة.

ويبقى السؤال الجدلي الذي يُغري كل اقتصادي بالتفكير:

هل ما زال في الإمكان الحديث عن سوق عالمية متكاملة، أم أننا دخلنا عصرًا جديدًا تُدار فيه السياسة عبر الملاعق والمقالي؟

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى