اقتصاد عالميمقالات

الأرجنتين: مرارة الإصلاح.. أمل التغيير

تمرّ الأرجنتين اليوم بواحدة من أكثر اللحظات حسمًا في تاريخها الاقتصادي الحديث. فبلدٌ يمتلك ثروات طبيعية واسعة، وموارد بشرية متعلمة، وتاريخًا صناعيًا عريقًا، وجد نفسه على مدى عقود محاصرًا بالتضخم المزمن، والديون المتراكمة، وتراجع القدرة الشرائية، وترهّل الجهاز الحكومي. ومع تولّي الرئيس خافيير ميلي الحكم بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية (19 نوفمبر 2023)، دخلت البلاد مرحلة “الدواء المرّ”؛ مرحلة الإصلاح القاسي، السريع، وغير الشعبي في العادة—لكنها جاءت هذه المرة مدعومة بتأييد انتخابي واسع، يعكس تحوّلًا ثقافيًا وفكريًا عميقًا داخل المجتمع الأرجنتيني.

 

أولاً: ملامح الاقتصاد الأرجنتيني قبل الإصلاح

كانت الأرقام قبل وصول ميلي تحكي قصة انهيار مؤلم. عانت الأرجنتين من معدلات تضخم تُعدّ من بين الأعلى عالميًا، حيث تجاوزت نسبة التضخم السنوية 211% في نهاية عام 2023، وهو رقم لم يعد مجرد إحصائية اقتصادية، بل أصبح ظاهرة اجتماعية تلتهم مدخرات الناس وتؤثر على كل تعامل يومي، من سعر الحليب إلى فواتير الطاقة.

كما اتسع حجم القطاع العام بشكل كبير، مع أجهزة حكومية مُتشعبة وعبء دعمٍ هائل، مما أدى إلى عجز مالي مزمن. هذه الدورة المستمرة من الديون الخارجية الضخمة والتخلف عن السداد، ثم برامج التقشف، ثم العودة للأزمات، أضعفت الثقة في إدارة الدولة وأدت إلى تآكل الصناعة المحلية وتراجع الاستثمار.

 

ثانياً: منهج ميلي – “الدواء المرّ” والإنجازات الأولية

منذ وصوله إلى السلطة، تحرك خافيير ميلي بسرعة وجرأة غير مسبوقتين، رافعًا شعار الحرية الاقتصادية. كان الهدف المعلن هو مواجهة جذور المشكلة دون تجميل، عبر خطة صدمة اقتصادية.

1- خفض الإنفاق الحكومي جذريًا:

ركزت الإجراءات على استعادة الانضباط المالي، حيث تم إلغاء عدد من الوزارات ودمج مؤسسات وتقليص الدعم. وقد أثمرت هذه الإجراءات القاسية عن إنجاز تاريخي: تحقيق فائض مالي في الربع الأول من عام 2024، وهو الأول من نوعه منذ أكثر من عقد. هذا الفائض، الذي جاء نتيجة لخفض الإنفاق الحكومي بنسبة تجاوزت 28% في بعض القطاعات، يمثل تجفيفًا لمصادر العجز المزمن الذي كان يمول بطباعة العملة.

2- مواجهة التضخم:

بدل اللجوء إلى حلول قصيرة المدى، ركّزت الحكومة على السياسات التي تكبح خلق النقود. ورغم أن التضخم الشهري ظل مرتفعًا في بداية 2024، إلا أن البيانات الحديثة تشير إلى تباطؤ ملحوظ. فبعد أن كان التضخم الشهري يتجاوز 25% في ديسمبر 2023، انخفض إلى 1.5% في مايو 2025، مسجلاً أدنى مستوى له منذ أكثر من خمس سنوات. هذا التباطؤ، وإن كان مصحوبًا بانكماش اقتصادي مؤقت، إلا أنه ضروري لإعادة الثقة في العملة الوطنية.

3- تحرير الاقتصاد وتشجيع المنافسة:

تركز السياسة على تحويل الدور الحكومي من “مُدير لكل شيء” إلى “مُنظّم للسوق”، مع التقليل من القيود التنظيمية ومحاولة جذب رؤوس الأموال الأجنبية.

 

ثالثاً: التحوّل الاجتماعي والفكري في المجتمع الأرجنتيني

لعلّ أبرز مفاجآت اللحظة الأرجنتينية الحالية ليست في الإجراءات نفسها، بل في تقبّل الناس لها. هذا القبول ليس مجرد تأييد سياسي، بل هو تحوّل عميق في الوعي الجمعي.

1- جيل جديد يؤمن بالحرية الاقتصادية:

الشباب الأرجنتيني، الذي أنهكته الأزمات المتكررة، لم يعد يبحث عن أكبر قدر من الدعم الحكومي، بل عن فرصة حقيقية للنمو والثقة بالمستقبل. لقد انحسرت “ثقافة الهبات” التي سادت لعقود، وبدأ المجتمع يتحوّل نحو ثقافة المسؤولية الفردية والاعتماد على السوق كطريق للإنقاذ.

2- قبول الدواء المرّ:

رغم أن خطوات ميلي تضمنت تقليل الإنفاق ووقف برامج اعتاد الناس عليها، فإن غالبية الناخبين رأوا أن “المرارة المؤقتة” أفضل من استمرار الانهيار. هذا القبول يمثل نضجًا سياسيًا واجتماعيًا، حيث يدرك المواطن أن استمرار المسار القديم يعني حتمًا الوصول إلى الهاوية.

 

رابعاً: الانتخابات النصفية.. استفتاء على “الدواء المرّ”

الطريق ما يزال طويلًا وشاقًا، ولا يمكن إنكار أن “الدواء المرّ” له تكلفة إنسانية. ففي الوقت الذي تتحسن فيه المؤشرات المالية الكلية، تظهر تحديات اجتماعية كبيرة، أبرزها ارتفاع معدلات الفقر التي وصلت إلى مستويات مقلقة. وقد واجهت الحكومة الليبرتارية اختبارًا سياسيًا حرجًا بعد شهور من المعارك التشريعية وعدم اليقين الاقتصادي.

شهدت هذه الفترة حربًا سياسية شرسة، حيث شنت قوى المعارضة البيرونية والكيرشنرية حملة مضادة، ومرّرت تشريعات لزيادة الإنفاق الحكومي، ما هدد بنسف برنامج الاستقرار الذي يقوده ميلي. كما أثارت خسارة قاسية بواقع 14 نقطة في انتخابات مقاطعة بوينس آيرس مخاوف من عودة الأرجنتين إلى دوامة الشعبوية الممتدة منذ قرن من الزمن.

ومع ذلك، جاءت نتائج الانتخابات النصفية الأخيرة التي جرت في 26 أكتوبر 2025 بمثابة استفتاء حقيقي بين اقتصاد السوق الحر والشعبوية الكلاسيكية. فبدلاً من الانصياع للضغوط، منح الناخبون دعمًا واضحًا لإصلاحات ميلي الجذرية، مؤكدين أنهم يفضلون “الألم المؤقت” على الانهيار المستمر. هذا الدعم الشعبي هو التحدي الحقيقي للحكومة الآن: كيفية الحفاظ على الانضباط المالي مع تخفيف وطأة التقشف على الفئات الأكثر ضعفاً، مع استمرار التفويض الشعبي للإصلاح.

الأرجنتين اليوم تعيش مفترق طرق تاريخيًا. وللمرة الأولى منذ عقود، يبدو أن المجتمع—لا الحكومة فقط— مستعد لتحمل الألم من أجل مستقبل أفضل. تجربة “الدواء المرّ” ليست مجرد سياسة اقتصادية؛ إنها تحول ثقافي يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن والاقتصاد، ويحمل في طياته أملاً حقيقيًا في استعادة المكانة الاقتصادية التي تستحقها هذه الأمة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى