بين “ثورة” الجوار و”تردد” الداخل.. أين تقف الكويت؟

بقلم: م. يوسف عدنان المطوع
تشهد المنطقة تحولات اقتصادية كبرى تعيد تشكيل وجهها، ولم يعد الدخول في هذا السباق ترفاً أو اختياراً، بل أصبح واقعاً يفرض نفسه علينا جميعاً. وبينما نراقب بإعجاب كيف تعيد دول الجوار هندسة نماذجها الاقتصادية لتكون أكثر مرونة وجذباً لرؤوس الأموال نجد لزاماً علينا من منطلق المسؤولية الوطنية والشراكة في بناء المستقبل أن نضع مسارنا الاقتصادي تحت مجهر البحث والمراجعة الموضوعية. إننا اليوم أمام فرصة تاريخية للحاق بالركب، شريطة أن نتجاوز مرحلة “التجريب” إلى مرحلة “المأسسة”، وأن نبتعد عن تكرار سياسات انكماشية أثبتت تجارب دول المنطقة عدم جدواها، لننتقل إلى سياسات تنموية تضع “مصلحة الكويت العليا” واستدامة رفاهها فوق أي اعتبار آخر.
بين كلفة الأعمال.. ومخاطر التضخم لعل أبرز ما يميز “النهج الجديد” في المنطقة هو السعي الحثيث لخفض “تكلفة ممارسة الأعمال” وتذليل العقبات لاستقطاب الاستثمارات الجادة. وهو نهج يتوافق مع ما تنادي به التقارير الاقتصادية الوطنية – كتقرير “الشال” – التي حذرت مراراً من أن البيئة الطاردة وارتفاع التكاليف يؤديان حتماً إلى “هروب الاستثمارات” الوطنية قبل الأجنبية. وفي المقابل، تتسرب بين الحين والآخر بعض “البالونات الاختبارية” التي تلوح برفع رسوم بعض الخدمات الأساسية واللوجستية إلى أرقام فلكية وغير مسبوقة. وهنا، يجب أن نتحدث بلغة “الاقتصاد الكلي” لتنبيه صانع القرار: إن مجرد التفكير في قفزات رسومية حادة للخدمات، مهما بدت مغرية دفترياً، يعد “قصر نظر اقتصادي” فادح. فهذه التكلفة لن يتحملها العامل البسيط، بل ستنتقل تلقائياً لتضخم تكلفة النقل وسلاسل الإمداد، لتستقر في النهاية كزيادة باهظة في أسعار السلع الاستهلاكية يدفع فاتورتها “المواطن” من جيبه. إن طرح مثل هذه الأفكار – ولو للنقاش – يعطي مؤشراً مقلقاً عن غياب النظرة الشمولية لأثر القرارات، فالحفاظ على القوة الشرائية للمواطن يبدأ من ضبط تكلفة الخدمات لا مضاعفتها.
الفجوة بين “النص” و”الواقع” ومن التحديات التي تتطلب معالجة إدارية حكيمة، ضرورة ردم الفجوة بين “القرار النظري” و”التطبيق العملي”. إن هيبة القرار الحكومي وفاعليته تُستمد من واقعيته وقابليته للتنفيذ، ولعل ما أثير مؤخراً حول قرار تنظيم بيع “مشروبات الطاقة” واشتراط “عبوتين فقط” خير مثال على ذلك. نحن هنا نسأل بلغة فنية: هل تم قياس إمكانية تطبيق هذا الشرط لوجستياً في منافذ البيع المكتظة؟ الهدف الرقابي مشروع ومطلوب، ولكن الآلية عندما تكون منفصلة عن الواقع تتحول إلى “عائق إجرائي” يربك التاجر الملتزم ويخلق سوقاً موازية، بدلاً من أن تكون حافزاً للتنظيم والانضباط.
رؤية استراتيجية.. لتصويب المسار إننا جميعاً شركاء في هذا الوطن، وهدفنا واحد: اقتصاد متين، ومستقبل آمن. ولتحقيق ذلك، نضع هذه الرؤى كخارطة طريق أمام متخذ القرار:
أولاً: مأسسة القرار الاقتصادي: ضرورة تفعيل “وحدة قياس الأثر التشريعي والاقتصادي” كفلتر أساسي قبل إصدار أي قرار يمس عصب السوق. فالقرارات الاستراتيجية لا تحتمل الارتجال، بل تتطلب دراسة متأنية لانعكاساتها على التنافسية والتضخم.
ثانياً: تعزيز “اليقين القانوني”: إن رأس المال يبحث عن الأمان التشريعي قبل العائد المادي. لذا، فإن تحصين القرارات الإدارية، وجعل القضاء هو الفيصل في منازعات التراخيص والإغلاق، يمنح المستثمر المحلي والأجنبي رسالة طمأنة بالغة الأهمية، ويحمي هيبة الإدارة الحكومية من الطعون، ويرسخ دولة المؤسسات.
ثالثاً: التحول من “الجباية” إلى “التحفيز”: بدلاً من الرسوم الجامدة التي تساوي بين الجميع، يمكننا ابتكار “حزم ذكية” تربط الرسوم بالقيمة المضافة التي يقدمها المستثمر للدولة. هكذا نجعل الرسوم أداة توجيه اقتصادي، لا مجرد أداة تحصيل مالي.
كلمة أخيرة إن التاريخ لا ينتظر، والمنطقة تتحرك بسرعة قصوى. ونحن في الكويت نمتلك كل المقومات – البشرية والمالية والتشريعية – لنكون في الطليعة. الرهان اليوم هو على “الحكمة” في الإدارة، و”الاستقرار” في الرؤية.. لنصنع واقعاً اقتصادياً يليق باسم الكويت ومكانتها.




