التحول الرقمي: طوفان يغير وجه التجارة أم طوق نجاة للكيانات الراسخة؟
بقلم المحامي هشام الفهد
في زمنٍ تتسارع فيه الأيام كوقع حوافر الخيل في ساحات الوغى، وتتغير فيه الأسواق كتقلب رمال الربع الخالي تحت وطأة الرياح، لم يعد بقاء الشركات رهناً لرسوخ أصولها أو عراقة تاريخها، بل لمدى فطنتها في امتطاء صهوة التغيير، والأخذ بأسباب القوة الجديدة. وما القوة اليوم إلا في عالم الأرقام والبيانات، عالمٌ لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُمسك بزمام الاقتصاد العالمي بقبضة من حديد. هذا هو “التحول الرقمي”، مصطلحٌ حديث في لفظه، لكنه ضاربٌ بجذوره في سنة الكون القائمة على التطور والبقاء للأقدر.
جوهر التحول لا قشوره
يخطئ من يظن أن التحول الرقمي هو مجرد اقتناء أحدث الحواسيب أو إنشاء صفحة على الشبكة العنكبوتية. إنما هو، في لُبّه، ثورةٌ فكريةٌ شاملة تعصف بالهياكل الإدارية البالية، وتنسف طرق العمل التقليدية التي عفا عليها الزمن. هو إعادة صياغة لعقد الشركة مع زبائنها، وعلاقتها بموظفيها، ومنهجها في إدارة مواردها. إنه الانتقال من عالم الأوراق والأختام إلى فضاء البيانات السحابية الفسيح، ومن بطء الإجراءات الروتينية إلى سرعة الأتمتة الفائقة التي لا تعرف الكلل.
نماذج ساطعة كنجوم السماء
ولئن كان الكلام مرسلاً، فإن الأمثلة تبدّد غمام الشك وتجلي الحقيقة. انظر إلى شركة “أرامكو السعودية”، عملاق الطاقة الذي لم يركن إلى قوته التقليدية، بل غاص في بحار الرقمنة، فأسس مراكز للذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات التنقيب والإنتاج، واستخدم “إنترنت الأشياء” لمراقبة آلاف الكيلومترات من خطوط الأنابيب آنياً، مما زاد من كفاءتها وقلل من مخاطرها بشكل لم يكن ليخطر على بال.
وفي قطاع الخدمات المالية، نجد “بنك الإمارات دبي الوطني” الذي أطلق بنكاً رقمياً بالكامل هو Liv، مستهدفاً جيل الشباب الذي نشأ في كنف التكنولوجيا، فقدم لهم تجربة مصرفية سلسة وفورية عبر هواتفهم الذكية، ليثبت أن حتى أعرق القلاع المالية يمكنها أن ترتدي حلة العصر الجديد.
القانون في مواجهة الطوفان الرقمي
لكن هذا المد الرقمي الجارف يصطدم حتماً بصخور القوانين والتشريعات التي صيغت في أزمنة لم تكن فيها هذه التقنيات إلا ضرباً من الخيال. فكيف يتعامل القضاء مع عقدٍ أبرمته خوارزمية ذكاء اصطناعي؟ ومن المسؤول عن خطأ ارتكبه نظام مؤتمت تسبب في خسائر فادحة؟ وما هي القيمة القانونية للتوقيع الإلكتروني أو السجلات الرقمية Blockchain كأدلة إثبات؟
هنا، تبرز أهمية الاجتهادات القضائية التي تعمل كبوصلة في هذا البحر المتلاطم. فقد بدأت المحاكم في دول متقدمة، وتبعها بعض المحاكم في منطقتنا، في قبول السجلات الرقمية كحجة، شريطة التحقق من سلامتها وعدم العبث بها. كما ظهرت اجتهادات تضع إطاراً لمسؤولية الشركات عن أنظمتها الذكية، محملةً إياها “مسؤولية موضوعية” باعتبارها المستفيد من هذه التقنيات والمسيطر عليها. هذه الأحكام، وإن كانت قليلة، تمثل منارات تهتدي بها الشركات والمشرعون على السواء.
ضرورة لا ترف: نحو تشريع يواكب العصر
إن الاعتماد على الاجتهادات القضائية وحدها يشبه من يحاول صدّ سيلٍ عرمٍ بأكوام من الحجارة المتفرقة. لا بد للدول التي تنشد التقدم من وقفة حازمة لتطوير منظومتها القانونية. يجب سن قوانين واضحة وصريحة تنظم التجارة الإلكترونية، وتحمي البيانات الشخصية، وتحدد المسؤولية القانونية عن أفعال الذكاء الاصطناعي، وتعترف بحجية الأدلة الرقمية بشكل لا يقبل التأويل.
إن التباطؤ في هذا المجال ليس مجرد تقصير تشريعي، بل هو تفريط في مستقبل الاقتصاد الوطني برمته. فالشركات لن تستثمر بثقة في تقنيات حديثة إذا كانت البيئة القانونية ضبابية وغامضة. إن توفير إطار قانوني متين وواضح هو بمثابة الأرض الصلبة التي تمكّن الشركات من الانطلاق في رحلة التحول الرقمي بأمان وثقة.
وفي نهاية المطاف إن التحول الرقمي ليس موجة عابرة، بل هو بحرٌ جديد تتشكل على شواطئه خرائط القوى الاقتصادية المستقبلية. والشركات التي تحجم عن الإبحار فيه، خوفاً من لججه أو جهلاً بفنونه، ستجد نفسها معزولة على جزيرة من الماضي، بينما يمضي الركب الظافر نحو آفاق الثروة والسيادة. وقد قيل قديماً: “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، واليوم، الرأي كل الرأي في احتضان هذا التحول، والتشريع له، والانطلاق فيه.




