مقالات

كويت المستقبل: حيث يلتقي رأس المال بصرامة القانون في رحاب التحول الرقمي

 

بقلم المستشار/ د. وسيم العبدالله

على أرضٍ عُجن ترابها بحكمة التجارة وصبر البحارة، وقامت صروحها على دعائم القانون والعدل، تقف دولة الكويت اليوم على عتبة عصرٍ جديد، عصرٍ لا تُقاس فيه الثروات بحجم الصناديق المكدسة، بل بسرعة تدفق البيانات ودقة الخوارزميات. إنها رحلة التحول الرقمي، المحفوفة بالفرص والتحديات، والتي تفرض على منظومتي الاستثمار والقانون أن تتآلفا وتتطورا، وإلا فاتهما ركب المستقبل الذي لا ينتظر المترددين.

الاستثمار في كويت اليوم: من أسواق المناخ إلى فضاء الأرقام

لطالما كانت الكويت منارة للاستثمار، يجذب إليها رأس المال كما تجذب المنارة السفن التائهة. لكن قواعد اللعبة قد تغيرت. لم يعد المستثمر الفطن يبحث فقط عن الأصول المادية والمشاريع العقارية الشاهقة، بل امتد بصره ليقتنص الفرص في عالم التكنولوجيا المالية، والمنصات التعليمية الرقمية، وحلول الرعاية الصحية عن بعد. هذه المشاريع، التي كانت قبل عقدٍ من الزمن ضرباً من ضروب الخيال، أصبحت اليوم ميادين التنافس الحقيقية، تعد بعوائد مجزية لمن يملك الجرأة والبصيرة.

وها هي “هيئة تشجيع الاستثمار المباشر ” تفتح ذراعيها، ليس فقط لجذب الأموال، بل لجذب العقول والتقنيات التي تغذي هذا التحول. كما أن شركات كويتية عريقة، متعددة، بدأت تضخ استثمارات ضخمة في بنيتها التحتية الرقمية، مدركةً أن البقاء في صدارة السوق يقتضي التحول من كيانات صناعية تقليدية إلى قوى تكنولوجية رائدة. إنها تدرك أن المستقبل ليس في توسيع المصانع فحسب، بل في بناء “مصانع البيانات” التي تنتج أثمن بضاعة في هذا العصر: المعلومة.

سيف القانون ودرعه: حماية الاستثمار في العصر الرقمي

وما قيمة الاستثمار إن لم يكن محاطاً بسياج منيع من القوانين الرادعة والعادلة؟ هنا يبرز دور المشرّع الكويتي، الذي يواجه تحدياً لا يقل ضراوة عن تحدي المستثمر. فالقوانين التي صيغت في عصر الآلات الكاتبة والملفات الورقية تقف اليوم عاجزة أمام سرعة المعاملات الرقمية وتعقيداتها.

كيف يمكن لقانون التجارة التقليدي أن يحكم صفقة تمت عبر “عقد ذكي” ينفذ نفسه بنفسه على شبكة “البلوك تشين” وكيف لقانون الإثبات أن يتعامل مع دليل رقمي يمكن، نظرياً، تغييره بضغطة زر؟ هذه ليست أسئلة فلسفية، بل هي تحديات واقعية تواجه القضاء الكويتي اليوم.

وقد بدأت تباشير الفجر تلوح في الأفق مع صدور قوانين مهمة مثل قانون المعاملات الإلكترونية (رقم 20 لسنة 2014)، الذي منح الحجية القانونية للتوقيع الإلكتروني والمستندات الرقمية، فكان بمثابة حجر الزاوية في بناء صرح الثقة الرقمية. لكن هذا القانون، على أهميته، ليس إلا الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل.

ضرورة لا ترف: نحو منظومة تشريعية تواكب الرؤية:

إن رؤية “كويت جديدة 2035” هي رؤية طموحة ترتكز على تحويل الدولة إلى مركز مالي وتجاري جاذب. وهذه الرؤية لن تتحقق بالكامل ما لم تواكبها ثورة تشريعية شاملة. لا بد من الإسراع في سن قوانين متخصصة تعالج الفراغات الحالية:

1- قانون حماية البيانات الشخصية: فالمستثمر الأجنبي والشركات العالمية لن تغامر بالعمل في بيئة لا تضمن سرية بيانات عملائها وموظفيها وفقاً للمعايير الدولية.

2- تشريعات الأمن السيبراني: يجب وضع أطر قانونية صارمة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، وتحديد مسؤوليات الشركات في حماية أنظمتها من الاختراق.

3- تنظيم الذكاء الاصطناعي: مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية في اتخاذ القرارات الاستثمارية والتشغيلية، بات من الضروري وضع إطار قانوني يحدد المسؤولية عن أخطاء هذه الأنظمة.

إن التباطؤ في هذا المضمار لا يعني مجرد تأخر تشريعي، بل هو مخاطرة حقيقية ببيئة الاستثمار بأكملها. فالقانون في العصر الرقمي لم يعد مجرد أداة لفض النزاعات، بل أصبح عاملاً أساسياً من عوامل الجذب الاستثماري ومحفزاً للابتكار.

وخلاصة القول إن دولة الكويت، بتاريخها التجاري العريق ونظامها القانوني الراسخ، تملك كل المقومات لتكون قصة نجاح باهرة في العصر الرقمي. والمفتاح لتحقيق ذلك يكمن في التوفيق بين جرأة المستثمر وحصافة المشرّع. فعندما تسير عربة الاستثمار على عجلات من التكنولوجيا المتطورة، محمية بدرع من القوانين الحديثة والعادلة، فإنها ستصل حتماً إلى وجهتها: كويت جديدة، مزدهرة، ورائدة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى