العملات الرقمية للبنوك المركزية: نحو نظام مالي عالمي مستدام

شهدت العملات الرقمية تطورًا هائلًا في السنوات الأخيرة، حيث تجاوز عدد مستخدميها عالميًا 600 مليون شخص بنهاية عام 2025، ما يمثل 7.5% من إجمالي سكان العالم. وتتصدر الإمارات العربية المتحدة وسنغافورة وتركيا قائمة الدول الأكثر استخدامًا للعملات الرقمية، حيث بلغت نسبة استخدامها 28% و26% و20% على التوالي. في ظل هذا التوسع، تواجه البنوك المركزية وحكومات العالم تحديًا يتمثل في فقدان السيطرة على عرض النقود بسبب الانتشار السريع لحلول الدفع المبنية على الأصول الرقمية. وللحد من هذه المخاطر، بدأت العديد من البنوك المركزية في تطوير عملاتها الرقمية الخاصة، والمعروفة باسم العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، التي تتمتع بوضع قانوني يجعلها وسيلة دفع معترف بها داخل الولاية القضائية للدولة.
مشروع العملة الرقمية لمصرف قطر المركزي
أطلق مصرف قطر المركزي مشروع العملة الرقمية كخطوة استباقية لمواكبة التحولات المالية العالمية، ودخل المشروع مرحلته التجريبية حتى أكتوبر 2024. تُعد العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) أحد أحدث أشكال المال، حيث أصدرت 11 دولة عملاتها، بينما تعمل 79و دولة أخرى على دراستها من خلال 120 مشروع، تتركز معظمها في الدول الآسيوية. تسهم هذه العملات في خفض تكاليف المعاملات، وتسريع المدفوعات الدولية، وتعزيز الشمول المالي، ومكافحة الجرائم المالية. كما تتيح للحكومات تقديم مساعدات مالية في حالات الطوارئ، مثل تجربة جزر البهاما بعد إعصار دوريان. رغم فوائدها، تواجه العملات الرقمية تحديات تتعلق بالتنظيم وقابلية التشغيل البيني بين الأنظمة المصرفية العالمية.
تأثير العملات الرقمية للبنوك المركزية
كشف تقرير بنك التسويات الدولية عن التأثير العميق للتحول الرقمي على البنوك المركزية والأسواق المالية، مسلطًا الضوء على العملات الرقمية والمنصات القابلة للبرمجة. وأوضح أن هذه التقنيات يمكنها خفض التكاليف وتحفيز الابتكار المالي، لكنها تتطلب إطارًا تنظيميًا قويًا لضمان الاستقرار المالي. كما أشار التقرير إلى أن البنوك المركزية بحاجة لإعادة تقييم دورها في ظل تزايد الاعتماد على الرقمنة، نظرًا لتأثير العملات الرقمية على السياسة النقدية وأنظمة الدفع. وأكد أن هذه العملات تقدم مزايا مثل سرعة المعاملات وتقليل التكاليف، لكنها تحمل مخاطر الحوكمة والسيولة والامتثال القانوني. وناقش التقرير أيضًا التجارب التي أجرتها مؤسسات مالية كبرى، مثل باركليز وماستركارد وفيزا، لاستكشاف إمكانات الودائع الرقمية وتحسين عمليات التسوية. وأوصى بضرورة وضع إطار تنظيمي واضح وتعزيز الحوكمة لضمان نجاح هذه التقنيات واستدامتها.
عملات البنوك المركزية الرقمية في الدول العربية
تسعى الدول العربية بشكل متزايد إلى تبني العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) كجزء من جهودها لتحديث أنظمة الدفع وتعزيز الشمول المالي. تُعد الإمارات العربية المتحدة من أبرز الدول الرائدة في هذا المجال، حيث أطلقت مشروع “عابر” بالتعاون مع السعودية لاختبار استخدام العملات الرقمية في المدفوعات العابرة للحدود، كما تعمل على تطوير اليوان الرقمي بالشراكة مع الصين. من جهتها، أعلنت السعودية عن خطط لإطلاق الريال الرقمي لتحسين كفاءة المدفوعات المحلية والعابرة للحدود. في مصر، يدرس البنك المركزي إطلاق الجنيه الرقمي لتعزيز الشمول المالي وتقليل الاعتماد على النقد التقليدي. أما المغرب، فقد بدأ في استكشاف إمكانية إصدار عملة رقمية وطنية لمواكبة التطورات العالمية.
تعكس هذه الجهود رغبة الدول العربية في تعزيز استقلاليتها النقدية وتحسين كفاءة أنظمتها المالية، كما تندرج ضمن التوجه العالمي المتسارع لاعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية، حيث أصبحت هذه المشاريع محورًا رئيسيًا في استراتيجيات البنوك المركزية عالميًا.
واقع مشاريع العملات الرقمية للبنوك المركزية عالميًا
بحلول عام 2025، بلغ عدد مشاريع العملات الرقمية للبنوك المركزية 120 مشروعًا موزعة على القارات كالتالي:
*آسيا: 45 مشروعًا
*أمريكا: 25 مشروعًا
*أفريقيا: 23 مشروعًا
*أوروبا: 27 مشروعًا
تُظهر هذه الأرقام أن مشاريع CBDCs ليست مقتصرة على الدول المتقدمة فقط، بل تشمل الدول النامية التي تسعى إلى تحسين كفاءة أنظمتها النقدية وتعزيز الشمول المالي. ومن المثير للاهتمام، أن بعض الدول لديها أكثر من مشروع واحد قيد التنفيذ، مثل:
*هونغ كونغ: 8 مشاريع
*فرنسا: 6 مشاريع
*سنغافورة: 5 مشاريع
أسباب إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية
أشارت الدراسات إلى أن أربعة دوافع رئيسية تدفع البنوك المركزية لاعتماد عملاتها الرقمية، وهي:
1- الاستقرار المالي: تعزيز استقرار الأسواق المالية وتقليل مخاطر العملات المشفرة غير المنظمة.
2- الشمول المالي: إدماج الفئات غير المشمولة مصرفيًا، حيث يعيش 1.7 مليار شخص في العالم بدون حسابات مصرفية، وهي نسبة تصل إلى 35% من سكان العالم.
3- كفاءة المدفوعات: تخفيض تكاليف المعاملات، خاصة المدفوعات العابرة للحدود، التي تُقدَّر تكلفتها عالميًا بحوالي 600 مليار دولار سنويًا.
4- الأمان والموثوقية: كونها تخضع لرقابة السلطات النقدية، مما يجعلها أكثر استقرارًا مقارنة بالعملات المشفرة الخاصة.
أثر العملات الرقمية للبنوك المركزية على السياسات النقدية
أظهرت البيانات أن التطور السريع للعملات الرقمية قد يؤثر على السياسات النقدية للدول. ففي الاقتصادات المتقدمة، يشكل التحكم في سلوك المستهلكين وضمان استقرار قيمة العملة الرقمية تحديًا رئيسيًا للبنوك المركزية، في حين أن الاقتصادات النامية تنظر إلى العملات الرقمية كأداة لتعزيز السيولة وتوفير وسيلة دفع موثوقة.
التحديات المستقبلية
على الرغم من الفوائد العديدة، إلا أن هناك عدة تحديات تواجه تنفيذ العملات الرقمية للبنوك المركزية، من بينها:
*التكاليف الأولية المرتفعة: يتطلب إنشاء البنية التحتية الرقمية استثمارات ضخمة.
*المخاوف المتعلقة بالخصوصية: قد تثير العملات الرقمية مخاوف حول حماية البيانات الشخصية.
*التأثير على البنوك التجارية: قد تقلل من الحاجة إلى الحسابات المصرفية التقليدية، مما قد يؤثر على مستويات الودائع المصرفية والإقراض.
التكامل مع الأنظمة المصرفية الحالية: تحتاج البنوك إلى إعادة هيكلة أنظمتها لتتماشى مع نموذج الدفع الجديد.
الخاتمة
تمثل العملات الرقمية للبنوك المركزية أحد أكثر الاتجاهات تطورًا في مجال الأنظمة المالية العالمية. ومع وجود أكثر من 120 مشروعًا قيد التنفيذ، فإن هذا التوجه يعكس رغبة الدول في الحفاظ على استقرارها المالي وتعزيز الشمول المالي. ومع ذلك، فإن نجاح هذه العملات يعتمد على قدرة الحكومات على تجاوز التحديات التقنية والتنظيمية، وضمان تكاملها مع الأنظمة المالية الحالية.
ومع استمرار البنوك المركزية في اختبار وإطلاق مشاريعها الرقمية، فإن النجاح المستقبلي لهذه العملات سيعتمد على تحقيق التوازن بين الأمان، والكفاءة، وحماية الخصوصية، بالإضافة إلى تعاونها مع الأنظمة المالية التقليدية لضمان تكامل سلس يحقق الفوائد الاقتصادية دون الإضرار باستقرار الأسواق.